Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

ظاهرة البيع بالتوقيع

A A
الفكرة قديمة في عالم الكتاب، وليست وليدة السنوات الأخيرة. هي في النهاية فعل ثقافي وتجاري وشراكة مع الناشر وحلقة من حلقات تسويق الكتاب، مرتبطة أساسا بجعل الكتاب مرئيا بإسهام الكاتب نفسه في هذه العملية. لكن هذا لا يغني عن جهد مؤسسة النشر التي تقوم بالدعاية ونقل الكتاب نحو المكتبات وإثارة انتباه القارئ والعمل على إغوائه، لأن الكتاب عندما يُنشر، يصبح سلعة. الناشر العربي لم يدرك قيمة هذه الخاصية، البيع بالتوقيع أو بالإهداء، ولا الكاتب، إلاّ في السنوات الأخيرة عندما أصبحت الحاجة إلى ميكانيزمات جديدة لتسويق الكتاب في ظل العزوف شبه الكلي عن القراءة الذي أعقبته إحصائيات اليونيسكو التي بينت فداحة القراءة في العالم العربي وبؤسها. وكثيراً ما اعتبر حرفيو النشر والكتاب غيرالمتعودين على الظاهرة، البيع بالتوقيع فعلا مخلا بالأخلاق وبسمعة الدار والكاتب معا لأنه يضع في الواجهة شخصا وُجد ليكتب لا ليبيع، أو إلى طعم لتصيد القارئ وإغوائه بحضوره. مع أن القصدية من هذا الفعل، في جوهرها على الأقل، واضحة. فهي مكوّن من مكونات المقروئية الطبيعية. فالقارئ عندما يرى الكاتب، ويتعرف عليه عن قرب، تتغير العلاقة معه، إذ يندمج الاثنان بشكل حميمي. وتسقط حالة الرهبة من الكاتب بوصفه شخصًا لا يمكن أن يطاله أحد. أكثر من ذلك، الكاتب الذي يترك ملمسه على كتاب، يعطي للقارئ الإحساس بالتواصل الدائم، وأن النسخة التي بين يديه لا تشبه بقية ما هو معروض لأن بها شيئا يخصه هو كقارئ ومحب. الكتاب يجد معناه بالنسبة للقارئ في العلامة الخاصة التي يتركها الكاتب. أصبح اليوم من واجب الكاتب مرافقة كتابه وناشره. ولا يكتفي باستقبال محصلة المبيعات كل فصل، أو كل سداسي أو كل سنة. الكتاب فاعلية مبطنة، تحتاج إلى من يحركها ويدفع بها إلى الأمام. أدرك الناشر الأوروبي قيمة ذلك مبكرا لأن حسه التجاري حاد وحيوي، بعد أن أصبح الكتاب سلعة شبيهة نسبيا ببقية السلع، على الرغم من بعض خصوصياتها. أدركَ أيضا في وقت مبكر، أن حضور الكاتب يُؤنْسِنُ الفعل التجاري البارد الذي كثيرا ما يهرب منه القارئ. الذي يشتري المنتوج الثقافي، يجد مهماً، بل فخرا له أن يلتقي بمؤلِّف أحب نصه ويريد أن يشركه في هذا الرأي وهذا الحب، وربما حتى الاختلاف. مهم أيضا أن يسأله ويساجله. ليس الحوار مع الكاتب من الزوائد الثقافية التي يمكن الاستغناء عنها بسهولة، بل في صلب العملية الإبداعية الخلاقة التي تنزل المبدع من عليائه، ومن ضرورات القراءة، التي تمحو الحواجز بين الكاتب وقارئه، وتجعل النص ليس فقط في متناول القارئ، ولكن أيضا مؤلفه. هي علاقة جديدة كليا نزعت من الكاتب سحر الابتعاد كما الآلهة في اليثولوجيا الإغريقية. لم تترسخ هذه الظاهرة في العالم العربي إلا في السنوات الأخيرة، لتدخل في فاعلية المشهد الثقافي في المعارض، أو أثناء صدور مؤلف ما، لكاتب ما، يريد الناشر والمكتبي أن يظهراه لقارئ دفعت به الدعاية إلى انتظاره بحميمية. المواقف المسبقة عربيا، من البيع بالتوقيع، كانت بلا أسس وبلا مبرر حقيقي. التحفظات الكثيرة لم تكن مؤسسة ثقافيا: كيف يستعرض الكاتب حضوره وجهده ويجلس الساعات الطويلة أمام كتابه أو كتبه، كمن يبيع خضرا أو شيئا شبيها، وقد يأتي المشتري وقد لا يأتي. وفي هذا إهانة للكاتب. لهذا رفض الكثير من الكتاب الدخول في لعبة التسويف. وكأن البيع بالتوقيع منافسة بين من يبيع أكثر، ومن يبيع قليلا، ومن لا يبيع. مع أن المسألة ليست اختبارا للصلاحية ولكنها شراكة مع القارئ، شراكة ثقافية حبية لا أكثر. لأن أتفه كتاب، لو تبنته الدعاية بشكل كاف، يمكنه أن يبيع الآلاف، أكثر من أي كاتب معروف. ولنا في الأسواق العربية والعالمية للكتاب الشاهد القاطع. ليس البيع بالتوقيع كثيرا مصدرا للجودة الدائمة. الجودة في النهاية في الكتابة والكتاب. لكنها لا تظهر بالشكل الكافي، أو ربما تأخذ زمنا طويلا، إذا لم تجد من يتبناها ويظهرها. الكتاب ليس سلعة بائرة، لكنه عصارة فكر يمكن أن يتمّ تقاسمها مع عدد كبير أو محدود من الناس، إذ ليس شرطا أن يكون الكاتب وسط بحر من البشر ليثبت فاعلية ما يكتب. تكفي الجماعة القليلة أو المتوسطة التي تحيط به وتناقشه في كتابه أو مشروعه. فالفعل الثقافي مهما اتسع، يظل نخبويًا، بالخصوص في العالم العربي حيث نسبة الأمية تتجاوز نصف الساكنة، وعلى المثقف أو الكاتب تحديدا أن يدرك ذلك ويقبل به.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store