Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الرواية عمل شاق

A A
الكتابة متعة، لذة استثنائية، لكن الرواية عملٌ شاق بالمعنى الجسدي والنفسي والحياتي. الكثير من النصوص تأخذ جزءا من حياتنا الحقيقية، وتدخلنا في حياة موازية. سئلت في حوارات البوكر التي تجريها عادة مع مرشحي القائمة الطويلة والقصيرة، أسئلة عديدة عن ظروف كتابة روايتي أصابع لوليتا، والمدة التي استغرقتها؟ واستقبال القراء والنقاد لها؟ الرواية ليست نزوة ولكنها جهد قاس. سنتان ونصف لإنجاز الرواية. لكن العمل كان متعبا وشاقا ومليئا بالهزات العنيفة. قضيت سنة كاملة، في حياة موازية لم تكن لي. دخلت من خلالها في عمق هشاشة عارضات الأزياء اللواتي نراهن خارجيا مرتاحات، لكنهن في العمق، تعشن حياة مأساوية. يكفي أن ننزع الأغطية والستائر الفوقية لنكتشف بسهولة الضياع الكبير، والخوف اليومي، ونعومة جسد حريري يمكن أن يخوننا في أية ثانية بالمرض الفجائي، زيادة الوزن، النوريكسي، أو حتى الغيرة والحسد والضغينة. النجاح والفشل يولدان كل الأمراض الغريبة. قضيت قرابة السنة في عروض الموضة، متابعا بعشق وألم ما كنت أراه أمامي. أتوغل شيئا فشيئا في عالم ملون ومعطر وغريب حد الإدهاش والأسطورة، عبر مسالك عدة، المتابعة اليومية، القراءة والمعرفة. كنت أريد أن أتخطى القشرة وأتوغّل بين المسامات داخل عالم مشتهى، لا أعرفه إلا شكليا وخارجيا. عالم الموضة يصنع الجمال والدهشة اليومية في حياتنا المعاصرة، لكنه يصنع أيضا مآسي بلا حدود. وجدت في عارضات الأزياء من اللواتي عرفت، وفي العروض الأسبوعية والشهرية، والكتب العامة التي قرأتها بما في ذلك كتاب رولان بارث عن نظام الموضة التي درسه سيميائيا وتوغل في سؤاله المعرفي: كيف استطاع الناس أن ينشئوا المعنى بألبستهم وكلامهم وحياتهم اليومية؟ وأيضا سيرة إيف سان لوران المولود في وهران، والذي رفض المشاركة في الحرب الفرنسية الجزائرية فهرب إلى باريس. لم تعد الموضة التي كنت أكتب عنها مجرد تجربة حياتية قصيرة العمر ولكنها أيضا تجربة وجودية. دخلت في أعماق الهشاشة الكبيرة بالعمل الشاق. وبعدها بنيت شخصيتي الروائية التي أصبحت طبعا أكثر تركيبا. تعرفت على أناس كثيرين في رحلة الكتابة، وكأني خبير في الموضة ومشاكلها، لكن ذلك كله لم يكن إلا مطية للتعبير عن العصر وصعوباته ومعتقداته. كتبت الرواية بين خمسة أماكن حية. باريس. الجزائر. فرانكفورت. بكين. تونس. كم من رحلة؟ كم من لقاء؟ كم من بشر كانوا عونا في الكتابة، ظلوا مخفيين. كم من لحظات الخيبة واليأس؟ في السؤال الثاني المتعلق بالقراءة. لا مشكلة مع القارئ العادي. منذ البداية نفترض تعدد المستويات. المشكلة هي على المستوى النقدي المختص. هل هو موضوعي في حكمه عليك؟ هل سيشغل حواسه النقدية، أم حرائقه وهزائمه الحياتية؟ كل شيء يقع على هذه الحافة الخطيرة. لأن وراء رأي الناقد، كيفما كان، ناسا يتابعون، وكثيرا ما يكتفون بالقراءة المنجزة لهم. هناك كسل قرائي معمم. أي أن باب الفضول المتحكم في القراءة يكاد يموت. أتذكر في طفولتي، وحتى اليوم، كلما وجدت شكرا مبالغا لرواية ما، أو ذما مبالغا فيه، ركضت نحوها لاختبار الحقيقة من خلالي. وهذا النوع من القراءة شديد الخطورة لأنه يمكنه أن يحجب بسهولة نصا عظيما، ويضع في الواجهة نصا ضعيفا. صحيح أن النص الكبير يخترق الحجب مهما كانت الظروف. لكن لنتخيل الوقت الذي يستغرقه نص كبير ليصل إلى قرائه؟ وقد يصلهم عن طريق لغة أخرى غير اللغة العربية مثلا، لأنه إذا حقق انتشارا غربيا، يصبح الاستقبال العربي تحصيل حاصل. نحن لا نملك القوة الإعلامية التي توصل كِتابنا العربي إلى القارئ المفترض. الكثير من النصوص ظلت في بلدانها، من الناحية الرسمية على الأقل، نكرة، لكنها حققت قوتها العالمية بسهولة أكثر من خلال الترجمة. لا يكتب الكاتب الفعلي، للجوائز، لكن قد يصطدم نص من نصوصه بها. وهو ما يمكنه أن يقذف بالرواية والروائي بعيدا في مدارات الشهرة. وقد يحدث العكس، فيظن الكاتب أن نصه سيخترق كل الآفاق ولكنه يفاجأ بأنه لم يثر لا القارئ العادي ولا القارئ المتخصص، فتبدو له جهوده فراغا لا يستدعي إلا الفراغ. قوة الكتابة أنها تمنح الحلم لصاحبها وللقاريء، ولكنها يمكن أن تتحول إلى كآبة إذا كانت ردة الفعل القرائية من النص سلبية. قوة الداخل عند الكاتب، هي الأهم، هي ما يخفف من شقاوة الكتابة وقسوتها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store