Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

نعم.. كفَى بالموتِ واعظًا وموحِّدًا

رؤية فكرية

A A
* كتب الزَّميل الكريم الأستاذ زياد الدريس، مقالاً بليغًا ومؤثِّرًا في صحيفة الحياة، «2 فبراير، 2017م» والذي استعرتُ طرفًا من عنوانه، لعنوان مقالي هذا، كتب مبديًا أسفه على ما ورد في بعض مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، والمتِّصل بتشكيك البعض في مشروعيَّة تعزية أحد الدعاة المعروفين في وفاة أفراد من أسرته، كما أنَّ آخرين -كما ذكر- تردَّدوا في تعزية أحد الفنانين المعروفين في وفاة والده -رحمه الله-.

* ولا يكفي أن نبدي الأسف، ونظهر الندم إزاء موضوع يمس اللُّحمة الوطنيَّة والاجتماعيَّة، بل لابدَّ من التذكير بغياب فهم مقاصد الشرع الحنيف، وتواري علم الفقه من حياتنا؛ ليحلَّ محلَّه الوعظ، والذي لا يملك أدوات استنباط الأحكام الشرعيَّة، وهذا لا يشمل عامَّة الدعاة والوعاظ، ولكن يخصُّ البعض ممَّن يستسهلون الفتوى بغير تمحيص وتدقيق.

* ويسأل المرءُ أين هؤلاء المتشكِّكون، والمشكِّكون في عقائد الآخرين عن مقصد شرعي عظيم، وهو عصمة دماء وأعراض أهل القبلة، فلقد ذكر الحجَّة في علوم الشريعة أبو حامد الغزالي -رحمه الله- ما يمكن أن يكون سدًّا منيعًا أمام هذه الدعاوى حين يقول: ولكنِّي أعطيك علامةً صحيحةً مطَّردةً ومنعكسةً، ترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ماداموا متمسكين بقول: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، صادقين بها، غير مناقضين لها، فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء به».

* بل إنَّ السيرة النبويَّة -وهي مصدر هام من مصادر التشريع- مليئة بسلوكيَّات النبيِّ صلى الله عليه وسلم الرفيعة، حتَّى مع المنافقين، الذين لم يكن يخفى أمرهم على الله ورسوله، فبعد غزوة أحد، ورجوع الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة -كما ورد في السيرة الحلبيَّة- «أظهر المنافقون واليهود، الشماتة والسرور، واستأذن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل هؤلاء المنافقين، فقال سيدنا وقُرَّة أعيننا عليه صلاة الله وسلامه: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأني رسول الله، قال: بلى، ولكن تعوُّذًا من السيف فقد بان أمرهم، وأبدى الله تعالى أضغانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «نُهيت عن قتل مَن أظهر ذلك».

* وأختم بسلوكيَّات بعض مشايخنا من أهل العلم، والذين أدركناهم في الحرمين الشريفين، فلقد كان فضيلة الشيخ محمد بن سبيل -رحمه الله- إذا ما سمع بوفاة أحد من مجايليه من أهل العلم حتَّى لو وُجِد اختلافٌ في بعض الرؤى والاجتهادات العلميَّة، فإنَّه يسرع ويبادر بالتعزية، وقد شاهدته قبل ربع قرن من الزمن في مقابر المعلاة، ونحن ندفن رجل الفضل وكبير مؤذني المسجد الحرام الشيخ عبدالله بصنوي، رأيته يجلس على مقربة من القبر، وكان -رحمه الله- آخر الناس انصرافًا بعد أن دعا له بالمغفرة.

وأخبرني شيخنا المحدِّث بالحرم النبوي الشريف عمر محمد جادة فلاتة -رحمه الله- بأنَّ رجلاً من عامة الناس قضى، وأتوا بجنازته بعد انقضاء صلاة العشاء، وصلّوا عليه في الروضة الشريفة، وتنبَّه فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح -رحمه الله- إلى ذلك، فسأل الشيخ عمر: مَن المتوفى؟، فقالوا: فلان من عامَّة الناس، فطلب من أهله أن يأتوا به إلى المحراب الرئيس؛ ليُصلَّى عليه ثانيةً مع مَن لم يدرك الصلاة الأولى.

* ولقد نعى الشيخ السلفي الشيخ جمال الدين القاسمي في رسالته «الجرح والتعديل» ما بلغته الأمة في عصره من التفرُّق والانقسام، فكيف به لو أدرك عصرنا؟. يقول المحدِّث والفقيه القاسمي: «وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسيًا منسيًّا، ونشر لواء التعادي والتباغض في الأمّة، وكان مطويًّا، وسبَّب على الأمة من التفرُّق والانقسام، وأورثها الضعف والانفصام، فبعد أن كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة ركنًا ركينًا في حضارة الإسلام، خلفَه التخاذلُ والتدابرُ والتعصبُ»، فاللهم عفوك ولطفك ورحمتك.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store