Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

القمم المدببة

No Image

A A
لا تكاد تخلو ساحة أي منافسة من المنافسات، التي تتبارى فيها المواهب لتقديم أجود ما عندها، من ظاهرة التعصّب لمبدع أو جماعة من المبدعين، ورفعهم إلى منصة القمة، وإسقاط الآخرين عنها، مع تجريدهم -في أقصى تجليات التعصّب- عن أي مقومات للموهبة والمقارنة مع من يحادون ويناصرون.. وهذا الحال يتكرر في كل معسكر ينحاز إلى جهة أو شخص دون آخر.. يظهر ذلك عندنا في الفن والرياضة، والأدب، والسياسة، وكل المجالات الإنسانية إجمالًا.

ولو قصرنا الحديث عن الثقافة والأدب والفنون، لبدت لنا الظاهرة أكثر وضوحًا؛ فهذا الحقل على اتساعه تضيقه عصبيات التلقّي المنحاز، لترفع أسماء منزلة علية، وتخفض أخرى أسفل سافلين، جاعلة من «مزاجها» الخاص، وتلقيها الشخصي معيارًا للحكم العام، الأمر الذي يجافي نظرية التلقي السليم، في سياقها تقديرها للمطروح عليها من زوايا الأخذ والرد، والمحاورة، والقراءة الباصرة، وغيرها من محركات العقل وتشغيل الذهن، ومتى ما اشتغل العقل وتوقَّد الذهن، فإن المحصلة ستكون بالضرورة انتفاء ظاهرة الجنوح نحو التعصّب في الانحياز، ولن نكون لحظتها في حاجة إلى ترصيع جبين من نحب بالنجوم اللوامع، أو تلطيخ من نناوئ بالرزايا والمناقص والمسالب.

إن الحاجة اليوم ضرورية ومُلحّة لمتلقٍ قادرٍ على التعاطي مع الإبداع عمومًا بمستقبلات غير مبرمجة سلفًا على موقف محدد من مبدع معين، فخطورة الإقبال على المنتج الإبداعي برأي مسبق؛ سلبًا أو إيجابيًا، يكون لها في الغالب تأثيرها على تفاعل المتلقي وتعاطيه، فلو أنه مثلًا يميل إلى فلان من الشعراء، فإن دخوله إلى النص الشعري يكون محمولًا على الإعجاب بدءًا، فإذا كان النص المطروح مستوفيًا كل جوانب الإبداع والجمال، فهو في نظر «المعجب» حينها سيكون «الناسف» لغيره، و»العصا» التي تلقف ما ينظم الآخرون في معرض السحر الشعري الحلال، وإن ظهرت على النص هنات ومثالب، فلن يقف «المعجب» إلا موقف المدافع عنها بالتأويل والبحث عن «المخارج» بزلق الكلام، ليبقي صاحبه في «القمة» بغير مزاحم..

والصورة تأخذ وضعًا معكوسًا تمامًا إن كان كارهًا أو نابذًا لشاعر من الشعراء على سبيل المثال، فلحظتها ستكون أي قصيدة له مهما علا شأنها ما هي إلا من التوافه الساقطات في امتحان الإبداع، وما صاحبها إلا مدعٍ ومبتدع.. إلخ

إن هذه الذائقة الجانحة نحو التصنيف والتحيز إلى طرف والحط من قدر الآخر في ساحتنا، أرى أن هناك عوامل كثيرة غذّته بشكل مباشر وغير مباشر، لكني اعتقد أن لإعلامنا بوسائله المختلفة أكبر الأثر في ما يدور، حيث ما فتئ إعلامنا يطلق الألقاب ويبذلها بمجانية على المبدعين في كافة المجالات، بدوافع مختلفة، ليس من بينها على الإطلاق تقدير مائز، واستحقاق منطقي لحجم المنتج الإبداعي، وصاحب اللقب الرنان، وهذا المسلك أسهم بقدر كبير في تمدد الظاهرة، وبخاصة في عصرنا الحالي، وقد تعددت وسائل الإعلام وتفننت في تلميع «النجوم» وتركيز الضوء الإعلامي عليهم بشكل تظن معه أن المبدع المعيَّن هو الأوحد الذي لا قبله ولا بعده مبدع.

غاية القول، إن القمة التي يحاول الكثيرون عبر حجزها بالتعصّب وإفرادها لمبدع دون آخر؛ ليست قمة مدببة، وكرسيًا واحدًا لا يحتمل الآخرين من ذوي الموهبة والعطاء المميز، ولن يكون في مقدورنا أن نصل إلى هذه الحقيقة، إلا إذا أدركنا ضرورة توطين مفهوم المتلقي الواعي، الذي يسبق عقله وتمحيصه شعوره الفوّار تجاه أي عمل إبداعي يلقى عليهم، فمتى ما أعمل عقله، وحرك طاقة ذهنه أمكنه أن يمحّص ما بين المطروح عليه من كافة منافذ الإبداع، فيتلقاها دون رأي مسبق، بما يتيح له القدرة على التمميز، وإثراء عقله ووجدانه بما يفيد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store