Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
فاطمة أحمد

غراس الخوف.. اليتم وذوو القربى!!

A A
كانت سيِّدةُ المنزل تقفُ وراء الباب، لم يكن يلمحها أحدٌ من نسوة الأسرة، ورجالها المجتمعين في المجلس، كان كلُّ مَن في المجلس مشغولاً بمداعبة الطفل -ذي السبعة أعوام من عمره- وكان ذكاؤه ورجولته المتقدِّمة محلَّ ثناءٍ من الجميع، إلاَّ أنَّ بصره كان متسمِّرًا صوب الباب مرَّاتٍ عدَّة!! لم يستوعب عقله ما يراه، فما كان منه إلاَّ أنْ طأطأ برأسه، ثم غادر المكان!! لم يفهم لِمَ خالطه شعور أنَّ جلوسه بينهم كان بمثابة جُرمٍ فادحٍ، أو ذنبٍ لا يُغتفر؟!

كان كلُّ همِّ سيِّدة القصر منصبًّا على أن لا يكون لهذا الطفل مكانٌ في بيتها ومجتمعها!! تلبس التجمد الطفل.. جلوسه.. تحركه.. حديثه، كان كلُّ ذلك مرصودًا تحت نظر السيِّدة وسمعها!! وكان كي يبعد الخوف من نفسه يتقوقع في مكانه دون حراك، أو يلجأ إلى طأطأة رأسه والانشغال برسوم السجادة التي يجلس عليها، فقد كانت الملاذ الآمن من كلِّ تلك التهديدات المبطَّنة التي هزَّت كيانه الصغير.

لم يكن تهديد سيِّدة القصر له صريحًا، بقدر ما كان تلميحًا.. ولم يتنبَّه له أحدٌ من الأسرة أو مجتمعها، وكان الطفل وحده مَن يعيش حالة الرهبة تلك.. ليله ونهاره.. كانت تحاول بشتَّى الطرق أنْ تُشعره بأنَّه كائنٌ غيرُ مرغوبٍ فيه.. لم يكن له الحقّ في الشكوى أو البوح، وإنْ باحَ بمعاناته لمَن هُم حوله، فلن يُصدِّقه أحدٌ منهم!! فالصورة من الظاهر كانت ورديَّةَ اللَّونِ، أمَّا في حقيقتها فقد كانت حالكةَ السوادِ، وما كان ظاهرًا للخلق لا يعلمُ خفاياه إلاَّ الخالقُ.

الصمتُ حوَّل تلك السيِّدة إلى وحشٍ، التهم فطرته النقيَّة، وتطوَّرت التهديدات في صورٍ عدَّةٍ.. مرَّة بالعيون، وأخرى بوضع الإبهام والسبابة في مقدِّمة رقبتها، إشارةً إلى العقاب الذي سيطاله لو حاول هذا الطفل ممارسة طفولته بعفويَّة مع أقرانه من أبناء الأسرة، أو حتَّى محاولة الاختلاط بأحدٍ من أبناء مجتمعها!!. لم تدع له حتَّى الحق في أن يسند رأسه على جدار الحجرة، عندما يُغالبه النعاس خوفًا من أن يُلوِّثه!! فأضحت تلك التهديدات حائلاً بينه وبين حرِّيته في أن يطلق لطفولته العنان؛ كي يُمارسها كما يحلو له.

عامٌ إثر عامٍ تراكمت الهزَّات عليه، كان أبلغها فَقَد الأمان.. في كلِّ مرَّةٍ كان يتوجَّه إلى والدته متسائلاً: لِمَ تأخذيني إليهم؟ لم يكن لدى والدته سوى إجابة واحدة، أصلُهم ليصلني الله بكِ!! لم يدرك الطفل لِمَ التزمت والدته الصمت طيلة تلك السنوات، ولم تعلم الأم أنَّ صمتها ذاك لم يكن فضيلة، بقدر ما كان نقمة انعكس أثرها على مستقبل ابنها بقيَّة حياته، حتَّى فَقَدَ الأمانَ في كلِّ شيءٍ حوله، وغراس الخوف أضحى رهابًا.. من غدٍ مجهولٍ يترصَّده!!.

مرصد..

قصّة من الواقع لم أطرحها إلاَّ لنصلَ إلى حقيقة.. متى كانَ اليتمُ ذنبًا، وعلى اليتيم أنْ يحملَ وزرَهُ؟ ولِمَ كانَ بيننا بعضٌ من ذوي القربى جعلَ من اليتمِ سياطًا يجلدُ بها حقَّ اليتيم، وحاجته إلى الأمانِ النفسيِّ؟ ولِمَ كانَ وصلُ ذوي القربى -ومَن في شاكلةِ تلك السيِّدة- الضريبة القاسية التي لم ولن يكتوى بنارها إلاَّ اليتيمُ وحدهُ؟!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store