Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

تغيُّر الأولويات من المسلَّمات

الحبر الأصفر

A A
الإنسَانُ كَائِنٌ يَنمو يَومًا بَعد يَوم، وكُلُّ نموٍّ لَه مُتغيِّراته ومَعَارفه، وإدرَاكه وأذوَاقه، لذَلك قَد يَستَحْسِن الإنسَانُ اليَومَ، مَا كَان يَستقبحه بالأَمس، وقَد يُحبُّ فِي هَذه السَّنَة، مَا كَان يَكرهه قَبل سَنتين، وقَد يَتصَالَح فِي هَذا الشَّهر، مَع مَا كَان مُتخَاصِمًا مَعه قَبل عَشر سَنوَات.. كُلُّ هَذَا بسَبَب عَوَامِل التَّعرية، وتَغيُّر النَّظرَة للحيَاة..!

فِي بِدَاية حيَاتي المَعرفيَّة، كُنتُ مَفتونًا بالشِّعر، وأَتذوَّقه بحَواسِّي السِّت، وقَد كُنتُ أَكتُبُ الأَبيَات التي تَعجبني، عَلى صدُور الكُتب المُهمَّة، أَو أُعلِّقها عَلى جُدرَان الغُرفَة، ومِن تِلك الأَبيَات بَيتٌ يَقول:

فقُلتُ لظَبيٍ مَرَّ بِي وَهُو رَاتعٌ:

أَأنْتَ أَخُو لَيلَى؟ فقَال: يُقَال!!

ولَكن بَعد سَنوَات مِن النِّمو والمَعرفَة، لَم أَعُد أَتذوَّق هَذا البَيت، بَل لَم أَعُد أَستسِيغ الاهتمَام بالشِّعر، جُملةً وتَفصيلاً، وأَحسبه -والله حَسيبه- مِن المُخدَّرات الفِكريَّة، التي أَضرَّت بالعَقليَّة العَربيَّة..!

إنَّ هَذه الحَال التي مَررتُ بِهَا لَيست خَاصَّة، بَل هي تَحدُث لكُلِّ إنسَان يَنمو ويَقرأ، ويَشتَغل عَلى ذَاته، ومِثل هَذه الاعترَافَات، ستَجدونها فِي سِيرة كُلِّ مَن كَتَب بكُلِّ نَزَاهةٍ، ولَعلَّ أَقرَب مِثَال إلَى الذَّاكِرَة، مَا كَتبه الفَيلسوف «مالكولم ماغريدج»، حِين قَال: (حِين أَعودُ ببَصري إلَى حَيَاتي المَاضية -وهو أَمرٌ أَقوم بِهِ أَحيَانًا- فإنَّ أَكثَّر مَا يَصدمني بقوَّة عَنهَا، هو أَنَّ مَا كَان يَبدو فِي حِينه الأكثَر أَهميَّة وإغرَاءً، يَبدو الآن تَافِهًا وسَخيفًا، وعَلى سَبيل المِثَال: النَّجَاح بأشكَالهِ المُختلفَة، الشُّهرة وتَلقِّي الإطرَاء، ومَسرَّات المَظَاهر الكاذِبَة، مِثل اكتسَاب المَال، وإغوَاء النِّسَاء، أَو السَّفَر والتِّرحَال إلَى مُختلف أَنحَاء الأَرض، طُولاً وعَرضًا، مِثل الشَّيطَان، مُجرِّبًا كُلَّ مَا يُمكن أَنْ تُقدِّمه استعرَاضَات التَّفَاهَة والخيلَاء. وحِين أَستَعيد تِلك المُمَارسَات، ومَا قدَّمته مِن بَهجة حَقيقيَّة لِي، فإنَّها تَبدو مُجرَّد وَهْم، أَو مَا سمَّاه «باسكال» لَعْق التُّرَاب)..!

حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!

بَقي القَول: أيُّها النَّاس، تَأمَّلوا أَنفسكم، فإذَا وَجدتُم أَنَّ قَنَاعاتكم قَبل عِشرين سَنَة، هي نَفسها قَنَاعَاتكم اليَوم، فاعلَمُوا أنَّكم لَا تَبتعدون كَثيرًا عَن عَامود الكَهربَاء، الذي أَمرُّ بِهِ مُنذ أَربعين سَنَة، وهو لَم يَتغيَّر..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store