Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

خريف العرب

A A
ستون عاماً مرت منذ فورة الاستقلال الوطني، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ضاع خلالها معنى الاستقلال، وضلت الوطنية طريقها بتأثير تيار العولمة، وبعد ستين عاماً، أفاقت شعوب الوطنية والاستقلال، على واقع يمزق الوطنية، ويحرق الاستقلال.

قرب نهاية خمسينيات القرن الماضي، وفي ميعة صبا الاستقلال الوطني لغالبية الدول العربية، بدت أحلام ما بعد الاستقلال أكبر من قدرة المستقلين على تحقيقها، انطلقت من المشرق العربي أفكار عن الوحدة العربية، حاول بعض العرب عقلنتها بطرح شعار التضامن العربي، باعتبار أن التضامن هو البديل العملي للوحدة.

طالب السوريون بوحدة اندماجية فورية كاملة مع مصر، وفي فبراير عام ١٩٥٨ تجاوبت مصر مع المطلب السوري تحت وطأة تهديدات تركية لسوريا، لكن دولة الوحدة سرعان ما تفككت بعد واحد وأربعين شهراً فقط، احتفظت مصر عاطفياً بعدها باسم دولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة»، لكنها استبدلته بعد عشر سنوات باسم جمهورية مصر العربية، واحتفظت سوريا وما تزال بعلم دولة الوحدة ذي النجمتين، بينما استبدلت مصر نسرها الذهبي بالنجمتين الخضراوين.

شيء من الواقعية مَس أحلام العرب بالوحدة، لكنهم ترفقوا بواقعهم، فطرحوا التضامن العربي بديلاً للوحدة العربية، فماذا تحقق من التضامن العربي بعد اثنين وسبعين عاماً من العمل العربي المشترك؟!

ما يجري بطول الساحة العربية وعرضها، يشير الى أن التضامن العربي، لم يكن حاضراً طول الوقت، إلا في بيانات تتبناها مؤتمرات القمة العربية، وأن الاستقطاب الدولي كان حاضراً بساحتنا طول الوقت ، وأن ما كنا نسميه النظام الإقليمي العربي، لم يعد نظاماً، ولا إقليمياً، ولا عربياً، فقد حلت الفوضى الإقليمية محل النظام الإقليمي، وحل الهم الوطني محل الهم العربي، وحلت الشرق أوسطية محل العروبة، فيما تراجع أو شحب التأثير العربي، في حاضر الإقليم ومستقبله، بينما لم يعد ممكناً للعرب الانفراد بتناول أكثر الشؤون العربية خصوصية في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والصومال، دون مزاحمة إقليمية من ايران وتركيا وإسرائيل، ودون حضور دولي ضاغط من قوى عظمى وكبرى، استدعاها الغياب العربي.

ما الذي جرى؟!.. ولماذا تغيب الوحدة وتحضر الفوضى، بعد أكثر من ستين عاماً على تدشين ما كنا نصفه بحقبة الاستقلال الوطني العربي؟!..

ما حدث في ظني، هو أن غالبية أعضاء ما (كان) يسمى بالنظام الإقليمي العربي، تعاملوا مع مفهوم الاستقلال باعتباره مجرد علم ونشيد، لم يلتفت أغلبهم الى أهمية بناء مؤسسات تصون الاستقلال، وتسهر على إدارته.

صيانة الاستقلال، جهد وطني بالأساس، يضطلع به الشعب ونظام الحكم في كل دولة، لكن ما حدث أن الأوطان حديثة الاستقلال أوكلت مهمة صيانة الاستقلال الى جيوشها، غير مدركة أن الجيوش هي إحدى أدوات الدول لصيانة استقلالها، وأن التنمية هي السبيل «الوحيد» لصيانة استقلال كل دولة، وأن المشاركة الشعبية هي السبيل «الوحيد» لتحقيق تنمية مستدامة، ولضمان التوزيع العادل للثروة الوطنية.

الأوطان التي أخفقت في صيانة استقلالها الوطني، لا يمكنها بداهة أن تتبنى تصوراً محكماً للأمن الإقليمي، فما نسميه التضامن العربي، هو فعل محسوب لا عاطفة مشبوبة، وهو موقف سياسي تستدعيه مصالح لا مشاعر، وحسابات لا ترضيات، فهل لدينا في المنطقة العربية ما يؤهلها لتفعيل معاني التضامن العربي بمصالحه وبحساباته؟!

بحسب تقديري الشخصي، فإن الحديث عن التضامن في غياب التفاهم، يبدو نشيداً حماسياً أكثر منه رؤية قابلة للتحقق، تماماً كما أن الحديث عن التفاهم العربي، يبدو قفزة باتجاه المجهول، ما لم يسبقه تحقيق «تعارف عربي»،

وهكذا، فلا تضامن عربياً دون تفاهم عربي، ولا تفاهم عربياً دون تعارف عربي.

الطريق «الوحيد» لبناء تضامن عربي حقيقي، يبدأ بتعارف عربي حقيقي، لن تنجزه سوى إرادة عربية واعية بأهمية بناء مؤسسات التعارف العربي، عبر جهد علمي لتوحيد المناهج الدراسية بمراحل التعليم ما قبل الجامعي، وبجهد ثقافي يدعم صناعة دراما عربية ومسرح عربي وكتاب عربي ورياضة عربية، وموسيقى عربية، وكم تمنيت لو جرى تخصيص جدول أعمال قمة عربية واحدة فقط من القمم الثماني والعشرين السابقة لإنجاز آلية جديدة للتعارف العربي/‏ العربي.

صدقوني.. يحتاج العرب الآن الى تعارف عميق فيما بينهم، قبل أي حديث عن التفاهم والتضامن. فما آلت إليه أوضاع المنطقة العربية منذ الغزو العراقي للكويت، يحمل مقدمات احتضار لأمة شاخت مبكراً فيما تزيد نسبة الشباب فيها على ٦٥٪‏ من السكان.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store