Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

ترمب.. القيادة من مقعد علوي

A A
تقودُ ماذا؟ تقودُ مَن؟ تقودُ بمفردها؟ تقود ضمن شركاء؟ تقود من الأمام؟ تقود من مقعد خلفي؟ تجلس بجوار السائق (نموذج الشراكة الأماميَّة كما سمَّاها أوباما).

في كلِّ الأحوال تريدُ الولايات المتحدة أنْ تقود، ولا يمانع حلفاؤها وأصدقاؤها تحميلها مسؤوليَّة القيادة..

حتَّى خصوم الولايات المتحدة يخشون اضطراب الحسابات، إن غابت واشنطن عن مقعد القيادة.

كلُّ نظريات القيادة، منذ نهاية الحرب العالميَّة الثانية تسيرُ إلى واشنطن، وكلُّ القضايا الدوليَّة تستدعيها، سواء بدواعي القوَّة الخشنة، أو بتأثير القوَّة الناعمة، أو بقوَّة الحضور، حين تُجسِّدها دبلوماسيَّة البوارج الطافية.

في كلِّ الأحوال تقودُ واشنطن إنْ حضرت، وتقودُ إنْ غابت. لكنَّ مستوى القيادة، ومركزها، وأدواتها، ورؤيتها، وتأثيرها، كلُّ هذا يتقرَّر: إمَّا بناءً على إستراتيجيَّة تحتفظُ واشنطن ببعضِ عناصرها في جيب سترتها الداخليِّ، وإمَّا بناءً على تصوُّرات ناقشتها واشنطن مع حلفائها، وجرى تنسيقُ المهام بشأنها، وتوزيع الأدوار فيها.

طوال سنوات أوباما الثماني، بدا أنَّ ثمَّة عزوفًا أمريكيًّا عن تحمُّل أعباء قيادة النظام الدولي، بعد تورُّط واشنطن في حربين في أفغانستان والعراق على التوالي، تسبَّبتا في نزيفٍ ماليٍّ هائلٍ، قادَ وول ستريت إلى الانهيار في عام ٢٠٠٨- ٢٠٠٩، ما أدَّى إلى أزمةٍ ماليَّةٍ عالميَّةٍ، تحمَّل الاقتصادُ الأمريكيُّ الجانبَ الأكبر من خسائرها.

أولويات أوباما كانت وقف نزيف الاقتصاد، والخروج بأمريكا من أزمةٍ ماليَّةٍ عاتيةٍ، ما قاده إلى الانسحاب كليًّا من العراق، وجزئيًّا من أفغانستان، وتجنُّب التورُّط المباشر في ليبيا وسوريا، ومهادنة إيران بإبرام اتِّفاقٍ نوويٍّ معها، ورفع الحصار الاقتصادي المضروب عليها (جزئيًّا).

بدا أوباما في فترة رئاسته الثانية، كما لو كان وكيلَ تفليسةٍ، يديرُ تراجعًا ممنهجًا للقوِّة، وللدَّور الأمريكيِّ على المسرح الدوليِّ، وبدت واشنطن قربَ نهايةِ رئاستِه، وكأنَّمَا تديرُ عمليةَ هبوطٍ آمنٍ لإمبراطوريَّة أرهقها طول التحليق.

بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي، بدت سنوات أوباما مُحمَّلة بخيبات أمل، وإحباطات كثيرة، جرَّاء عزوفٍ أمريكيٍّ، عن ممارسةِ دورٍ اعتادت المنطقةُ أن تتكئَ عليه، وأن تقيم حساباتها في حضوره.

بدخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بدا أنَّ على حلفاء واشنطن وخصومها، أنْ يراجعوا حساباتهم مجدَّدًا، فالرئيسُ القادمُ من حقول البيزنس، جاء من خارج الحزبين الجمهوريِّ والديموقراطيِّ، وإنْ كانَ الجمهوريُّونَ قد اعتبروه مرشحَ حزبهم، وهو يبدي ميلاً لإدارة عجلات القوَّة وفقَ منطق البيزنس.

يرى ترمب أنَّ بلاده هي أقوى قوَّة عسكريَّة في التاريخ الإنسانيِّ كله، وأنَّها قد وظَّفت هذه القوَّة منذ نهاية الحرب العالميَّة الثانية، قبل أكثر من سبعين عامًا، لصيانة السلم والأمن الدوليين، دون أن تحصل على مقابلٍ مناسبٍ، وأنَّ الوقت قد حان لتنال واشنطن ثمنًا مناسبًا لحمايةِ حلفاء مثل ألمانيا واليابان بصفةٍ خاصَّةٍ، تمكَّنوا -تحت مظلَّة القوَّة الأمريكيَّة،- من تحقيقِ قفزات اقتصاديَّة هائلة، نافسوا بها الولايات المتحدة في عقر دارها. يريد ترمب -إذن- أنْ تعودَ امريكا للقيادة، ولكنْ وفقَ شروطها.

إحدى أبرز حقائق السياسة الدوليَّة، طوال خمسة وسبعين عامًا من عمر النظام الدوليِّ، هو أنَّه لا بديل عن واشنطن كقوَّة تضعُ سقفًا للصراعات، وتملك القدرة على إنهائها.

في ضوء تلك الحقائق، استعاد ترمب مقعد أمريكا المميَّز في الأزمة السوريَّة، بعد ضربةٍ رمزيَّةٍ بصواريخ توما هوك، على قاعدةٍ جويَّةٍ سوريَّةٍ، وفي ضوء ذات الحقائق، تستعيدُ واشنطن دفَّةَ قيادة العمليَّات العسكريَّة في المعركة الأخيرة لطرد داعش من مناطق تسيطرُ عليها في الموصل بالعراق، ومن عاصمتها في الرقّة بسوريا، لكنَّ حسابات واشنطن في الرقّة، تصطدم بمخاوف تركيا، التي تعارض خططًا أمريكيَّةً لتسليح قوَّات سوريا الديموقراطيَّة (الكرديَّة).

تقديراتُ ترمب لمهام الصراع في سوريا والعراق، تميلُ إلى تحميلِ الأطراف الإقليميَّة والمحليَّة أعباءَ القتال على الأرض، فيما تكتفي واشنطن بإدارة العمليَّات من سماء الصراع، وتحت ظلال البوارج الأمريكيَّة، وطبقًا لتلك التقديرات، تبدي إدارة ترمب حماسًا ظاهرًا للاضطلاع بمسؤوليَّات القيادة عن بُعد، باعتبارها الخيارَ الأقلَّ كلفةً والأعلى ربحيَّةً.

أوباما جسَّد في الأزمة الليبيَّة نموذجَ القيادة من مقعدٍ خلفيٍّ، وفي أزمة سوريا، جسَّد نمطَ الشراكة الأماميَّة، لكنَّه خسرَ ثقةَ حلفائه في الحالين، أمَّا ترمب فقد يُفضِّل نمطَ القيادة من مقعدٍ علويٍّ، لا يهبط بقوَّاته على الأرض، ولا يحرم حلفاءه من غطاءٍ فضائيٍّ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store