Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

قطر.. قدَّاحة الحريق الخليجي الكبير!

A A
لا أحدَ في السياسةِ يكسبُ كلَّ شيءٍ، فهناكَ دائمًا ثمنٌ ينبغي أنْ يدفعَهُ كلُّ طرفٍ: الخاسر، والرابح على السواء، وإلاَّ كفَّت اللعبةُ عن أنْ تكونَ سياسةً، وانتقلت من منطقةِ السعي لبلوغِ الممكنِ، إلى منطقةِ السعي للإمساكِ بتلابيبِ المستحيلِ.

لمْ تكن العلاقاتُ الخليجيَّة - الخليجيَّة، في أيِّ وقتٍ سمنًا على عسلٍ، ففيها بعضُ الهنَّات، وفيها بعضُ الهواجسِ، وفيها بعضُ الاختلافاتِ، لكنَّها كلَّها عند المستوى الطبيعيِّ لعلاقاتِ الدول، وكلّها أيضًا تحتَ سقفِ قِيَم خليجيَّةٍ حاكمةٍ، لعلاقاتِ القادةِ ودولهم وشعوبهم، لم تسمحْ في أيِّ وقتٍ بتدخُّل طرفٍ، أو أطرافٍ خارجيَّةٍ لنصرةِ طرفٍ خليجيٍّ ضدَّ طرفٍ خليجيٍّ آخرَ.

لكنْ مَا حدثَ مع الأزمةِ الأخيرةِ بين قطر من جهةٍ، وبينَ السعوديَّةِ والإماراتِ والبحرين، ومصرَ، من جهةٍ أُخْرَى، بدا خروجًا حادًّا عن أدبيَّاتِ الاختلافِ والخلافِ تحتَ السقفِ الخليجيِّ.. لماذا؟!

لأنَّ نوعَ، وموضوعَ، ومستوَى الخلافِ، بينَ قطر، وبينَ شقيقاتِها (الكُبرَيات)، بدا هذِه المرَّة مختلفًا، بعدما جسَّد السلوكُ القطريُّ تهديدًا لصميمِ وجودِ شقيقاتِها، ولاستقرارِ الإقليمِ برمَّتهِ.

الخلافُ بين قطر، وكلٍّ مِن السعوديَّةِ والإماراتِ والبحرين ومصرَ وليبيَا واليمنِ، سببه تآمرُ الدَّوحةِ ضدَّ سلامةِ هذه الدول، وضدَّ وحدتِها الإقليميَّةِ، وبسببِ جسامةِ التهديدِ، لم يكنْ بوسعِ الدول المستهدفةِ به الانتظار حتَّى طلوعِ النهارِ، كان التصدِّي لعبثِ الدوحةِ لازمًا، وفوريًّا، وقويًّا وشاملاً، وكانت تداعياتُه سريعةً وكبيرةً على المستويين الإقليميِّ والدوليِّ.

العنوانُ الصحيحُ للأزمةِ -في تقديري- لا ينبغِي أنْ يقفَ عندَ منطقةِ (الخيانةِ)، باعتبارِ أن الدوحةَ قد خانت أشقاءَها، أو تآمرتْ مع الأعداءِ ضدَّهم، فهذا معيارٌ أخلاقيٌّ، قد يؤثِّر في السياسةِ، لكنَّه لا ينبغي أن يقودَها أو يصنعَها، وإنَّما التكييفُ الأقربُ إلى الصحَّةِ -في تقديري- هو النَّظرُ إلى سلوكِ الدوحة باعتبارهِ مشهدًا ضمنَ سيناريو يستهدفُ إعادةِ هيكلةِ منطقةِ الخليجِ، والجزيرةِ العربيَّةِ.

مهمَّة السيناريو المضاد، يجبُ أن تكونَ إفسادَ الخططِ الراميةِ إلى إعادةِ هيكلةِ منطقةِ الخليجِ، والجزيرةِ العربيَّةِ.. أمَّا نجاحُ هذا السيناريو المضاد لسيناريو الدوحةِ، فيظلُّ رهنًا بقدرةِ الأطرافِ العربيَّةِ المتحالفةِ لإسقاطِ سيناريو الدوحة، على قراءة الظرفِ، واستيعابِ حقائقِهِ، وتقديرِ المخاطرِ، واستكشافِ الفرصِ.

ضخامةُ الهدفِ الحقيقيّ لسيناريو الدوحة (إعادة هيكلةِ منطقةِ الخليج والجزيرة العربيَّة) تقطعُ بأنَّ مَن خطَّطوا له، ومَن يُديرُونَه من خلفِ الستارِ، هُم قوى أكبر بكثيرٍ من قطر، وأنَّ دورَ الدوحة في هذا السيناريو، هُو القدَّاحةُ التي تقومُ بإطلاقِ شرارةِ الحريقِ الخليجيِّ الكبير، الذي تتقدَّم بعدَه القوى المستفيدةُ، لتستكملَ مخططاتِها، وتواصلَ التقدُّمَ باتجاهِ أهدافِها.

إيران، هي أبرزُ القوى الإقليميَّة التي سارعتْ إلى استثمارِ تداعياتِ الأزمةِ، معلنةً عن استعدادِهَا لتزويدِ قطر باحتياجاتِهَا الغذائيَّةِ، وسطَ أنباءٍ عن مشاركةِ وحداتٍ من الحرس الثوريِّ الايرانيِّ في حراسةِ الديوان الأميريِّ في قطر، أمَّا ثانِي أبرز القوى، فهي تركيا، التي سارعَ برلمانُها -الذي يسيطرُ عليهِ حزبُ الرئيسِ التركيِّ أردوغان- إلى المصادقةِ على إرسالِ قواتٍ تركيةٍ على وجهِ السرعةِ للانتشار في قاعدةٍ بقطر.

واشنطن -التي أيَّدت التحرُّكَ العربيَّ ضدَّ قطر، بقيادةِ السعوديَّةِ والإماراتِ؛ باعتبارهِ يؤدِّي إلى وقفِ تمويلِ الاٍرهابِ،- هي ذاتُها التي اعتبرتْ علاقاتِ قطر بإيرانَ مفيدةً، في الإبقاءِ على قنواتِ اتِّصالٍ بين طهران وواشنطن، إحداها قطريَّة.

وبرَّرت واشنطن علاقاتِ الدوحة بطهرانَ، بأنَّها لازمةٌ وطبيعيَّةٌ، نتيجة شراكةِ الدولتين في أكبرِ حقولِ الغازِ بالخليجِ.

وضمن تقديرِ موقفٍ أمريكيٍّ للأزمةِ الأخيرةِ، اعتبرَ عسكريُّونَ أمريكيُّونَ أنَّ واشنطن تحتاجُ إلى قاعدةِ «العديد» الجويَّةِ في قطر، بدعوَى أنَّ تجهيز قاعدةٍ بديلةٍ في أيٍّ من دولِ المنطقةِ سوف يستغرقُ وقتًا حرجًا بالنسبةِ لحربِ واشنطن ضدَّ داعش في سوريا والعراق.

أمريكا تتفهَّم قلقَ ومخاوفَ الأطرافِ العربيَّةِ، لكنَّها تتطلَّعُ إلى تسويةٍ للأزمةِ، خلالَ لقاءِ مصالحةٍ يتطلَّع الرئيسُ الأمريكيُّ ترامب لالتئامهِ في واشنطن، لكنَّ مسارعةَ أميرِ قطر إلى استدعاءِ حضورٍ عسكريٍّ تركيٍّ وإيرانيٍّ عند خاصرةِ الخليجِ، يستنفرُ مشاعرَ القلقِ لدى دولِ وشعوبِ المنطقةِ، ويلقي بظلالٍ من الشكِّ على أيَّةِ جهودٍ للتسويةِ لا تستوعبُ مخاوفَ الخليجِ، ولا تطلُّعات شعوبِهِ.

لا أحدَ في الخليج مشغولٌ بالإطاحةِ بأمير قطر، لكنَّ الخليجَ كلَّه وجوارَه العربيَّ الأوسع، مشغولٌ بتغييرِ التوجُّهاتِ القطريَّةِ التي قادتْ إلى المأزقِ الراهنِ.

بدخولِ الحرسِ الثوريِّ الإيرانيِّ، وعناصرِ النخبةِ العسكريَّةِ التركيةِ إلى قطر، يصبحُ خروجُ النظامِ القطريِّ من الأزمةِ، باهظَ التكلفةِ، وترتفعُ رهاناتُ الحلِّ فيها، بينما تتزايدُ فرصُ واشنطن في بسطِ رؤيتها للخروجِ من تلك الأزمةِ.

استعادةُ قطر -التي تحترمُ قِيَم الجوارِ، وتلتزمُ بواجباتِهَا، في إطارِ مجلسِ التعاونِ الخليجيِّ- هو الهدفُ النهائيُّ للتحرُّكِ الذي تقودُه السعوديَّةُ. وهي مهمَّةٌ محفوفةٌ بالمكارهِ، لكنَّ هِمَمَ الرجالِ لا تعبأ بالصعابِ، ولا تتوقفُ أمامَ العقباتِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store