Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

ليعود رمضان (رحمةً للعالَمين) (٣)

A A
كيف نوازن بين الشعور بخصوصيَّة الهويَّة الإسلاميَّة في هذا المقام، وعدم الوقوع في شبهة العنصريَّةِ الإنسانيَّة البغيضة، والاصطفاء العرقيّ/ الأيديولوجيّ من جانب آخر؟.

يُعبّرُ هذا السؤال عن واحدٍ من أكثر الإشكاليَّات حساسيَّةً في الواقع الإسلاميِّ المعاصر. فالشعورُ بخصوصيَّة الهويَّة أمرٌ مطلوبٌ. وهو شعورٌ إيجابيٌّ يحمي الثقافة ذات العلاقة من الذوبان في الثقافات الأخرى، حين يكون متوازنًا ومضبوطًا.

أكثر من هذا، يمكن لهذا الشعور، بوجود الضبط والتَّوازن المذكورين، أن يؤثِّر إيجابيًّا في الحضارة الإنسانيَّة المعاصرة عمومًا. لكونه مدخلاً يساعد كل ثقافة على إبصار مساهمتها الممكنة في الحضارة الإنسانيَّة من خلال اكتشاف كمونها القيمي والحضاري الخاص، وبَصمتِها المتميِّزة التي توجدُ بكل ثقافةٍ في هذا العالم. وهو كمونٌ يساعدُها على الإسهام بشكلٍ فعَّالٍ وإراديٍّ وإيجابيٍّ في الحضارة الإنسانيَّة، بدلاً من الاقتصار على التلقي السلبي منها. بحيث يظل التنوُّع مصدرًا من مصادر بناء الحضارة البشريَّة، وهو ما يضفي عليها إنسانيَّتها الحقيقيَّة في نهاية الأمر.

نحن هنا أمام تجلٍّ واضحٍ لحقيقةٍ يُفترض أن تكونَ من قواعد الوجود البشريِّ على الأرض. وهي حقيقةٌ أكّدَ عليها القرآنُ نفسُه من خلال حديثه المتكرِّر والمتنوِّع عن اختلاف (الألسنة والألوان) حين يتعلَّق الأمر بالجماعات البشريَّة، بل وعن كون هذا -بحدِّ ذاتِهِ- آيةً من آياتِ الله.

هذا فضلاً عن التصريح الواضحِ بأنَّ من حِكَم خَلق الإنسانِ ووجود البشريَّة، بما فيها من تَعدُّدُ الشعوبِ والقبائل والأعراق، يمثِّل إرادةَ الخالقِ الكريمِ الذي يُؤكِّدُ، في الآية ذات العلاقة، أنَّ مشيئته اقتضت ألاَّ يكون الناس (أمةً واحدةً)!

والإشارةُ في القرآن معروفةٌ وشهيرةٌ حول إرادة الخالق، أيضًا، بأن يكون الناس (شعوبًا وقبائلَ)، وأنَّ ثمَّة مقصدًا واضحًا ومحددًا لهذا الأمر، يتمثَّل في قوله: (لِتَعَارَفُوا).

هذه حقائق «قطعيَّة الثبوت والدلالة» كما يقولُون في علوم التفسير والفقه. وبالتالي، فإنَّها تستحقُّ درجةً أعلى ممَّا تناله اليومَ من الدراسة والتفكير والتحليل والحوار. إذ يستحيل، منطقيًّا، أن يكون الهدفُ من خَلق هذا التنوع أصلاً، ثمَّ التأكيد عليه بعد ذلك في القرآن نفسه، جَعلُ ذلك التنوع مدخلاً للشحناءِ والبغضاءِ والتنازعِ والاقتتالِ بين الجماعات البشريَّة. وهذا تحديدًا ما نَفَتهُ كلمة (لِتَعَارَفُوا) المذكورة أعلاه بكلِّ وضوحٍ.

ثمَّة نقطةٌ أخرى يجدرُ تحريرُها في هذا المقام، تكمن في دلالات الآيةِ الكريمةِ (وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). فتلك الدلالاتُ لا تتوقَّف أبدًا عند حدود النصرِ والتمكينِ العسكريين. وإنَّما هي أوسع من ذلك بكثير أخلاقيًّا وثقافيًّا ونفسيًّا؛ لأنَّها تتضمَّن دائمًا تلك القدرة الهائلة على استيعابِ الضعف البشريِّ والخطأ البشريِّ، الصادر عن الآخر تحديدًا، وعلى التعامل معه بجميع الطرق، بغرض إعادة توجيهه في اتِّجاه تأكيد قيم الحق والخير والعدل والحريَّة والجمال.

إن جوهر وجود رسالة الإسلام، ووجود المسلمين بالتالي، يتمثَّل في قدرتهم العمليَّة على التأكيد المستمر لوظيفة (الرَّحْمَة للعَالمِينَ)، مهما اشتدَّ طغيانُ الإنسان وجبروته وفساده. بل إنَّ قيمة تلك الوظيفة تتأكَّدُ أكثر بسببِ وجود مثل ذلك الطغيان والفساد والجبروت، إذ لا معنى أصلاً لوجود مَن يُجاهدُ في هذه الحياةِ لينشر الرحمةَ للعالمِينَ، عبر عمليَّة المدافعة، لو لم يكن فيها ذلك الطغيان والفساد والجبروت.

لا حديث عن مثاليَّةٍ مُصطنعةٍ في هذا المقام، لِمَن يُريد أن يُفكِّر ويفهم، بعيدًا عن الأحكام المُستعجلة.. فالمؤكَّد أنَّ التحدِّي فيما يتعلَّق بتلك الوظيفة يزدادُ عندما يصدر عن بعض أولئك (العالمين) ما يؤذِي حاملَ هذه الرسالة وغيره من البشرِ بأشكالٍ مختلفةٍ. لكن مفرق الطريق يكمن في الحساباتِ الحسَّاسةِ والدقيقةِ المتعلِّقةِ بهذا الموضوع.

فهنا، يصبحُ من أسهل الأمور تعميم الأحكام على شعوبٍ وأقوامٍ بأسرها، بدلاً من تحديدِ المسؤوليَّات، والارتكاس إلى الغرائز الوحشيَّة البحتة الموجودة في فطرة الإنسان عند التَّعامل معها، وهذه غرائز تعبِّر عن أقلِّ ما في تلك الفطرةِ من مقومات السموِّ والتَّعالي. وفي هذه الحال يصير مغريًا جدًّا إلغاءُ كلِّ مَا له علاقة بوظيفة الرَّحمة للعالمِينَ من حساباتِ المسلم في علاقاته مع الآخر، وبتعميمٍ قاطعٍ يشملُ جميعَ شرائحِ البشرِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store