Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

ليعود رمضان رحمة للعالمين (٤)

A A
«حريق برج غرينفيل: مسلمون مستيقظون لأجل (سحور) رمضان كانوا من بين الأبطال الذين أنقذوا الأرواح». كان هذا عنوان جريدة التلغراف البريطانية العريقة صبيحة الحريق المؤسف الذي اشتعل في البرج المذكور مطلع الأربعاء الماضي. وبنفس العنوان تقريبًا خرجت صحف ومواقع بريطانية أخرى مثل صحيفة الإندبندنت وThe Star وهفينغتون بوست النسخة البريطانية وغيرها.

بغض النظر عن أي مبالغةٍ في الحديث عن أمرٍ قام به بعض مسلمي لندن كواجبٍ إنساني أولًا وأخيرًا، لم نكن ندرك عند بدء هذه السلسلة من المقالات أن مثل هذا الحادث سيقع ويُظهرُ، حرفيًا، كيف يمكن لشهر رمضان الكريم أن يعود حاملًا قيمًا وممارسات تكون رحمةً للعالمين، بكل ما في الكلمة من معنى.

كان الخبر هذه المرة عن (إسلامٍ) و(مسلمين)، ولكنه لم يكن خبرًا عن (الإرهاب) ومرادفاته من ممارسات الغلوّ والعنف والتطرف. لا حاجة لإعادة التأكيد على أن الإرهابيين لا يُمثِّلون قِيَم الإسلام الحقيقية من قريبٍ أو بعيد. لكن ثمة حاجةً لإعادة التنبيه لأمرين.

أولًا، إن التراكم المكتوب المنسوب إلى كُتَّاب وعلماء وفقهاء ومفسرين على مدى التاريخ الإسلامي، والذي يُشكلُ ثقافة كثير من المسلمين اليوم، لا يزال يحمل في طياته كمًّا مُؤثِّرًا من الآراء والفتاوى والتعليمات التي تتناقضُ مع تلك القيم الإسلامية الأصيلة نفسها. خاصةً في مجال الحُكمِ على الآخر غير المسلم والتعامل معه، إلى غير ذلك من قضايا حساسة أخرى.

الأخطرُ من هذا أنه، رغم وجود من يجرؤ على توجيه سهام النقد الواضحة والصريحة لمثل هذه الآراء، وأن في هؤلاء علماء ومفكرين وباحثين وفقهاء معاصرين، إلا أنه لا يوجد ثمة من يجرؤ على المطالبة بإلغاء وحذف مثل تلك الآراء والفتاوى بشكلٍ نهائي كمصدرٍ من المصادر التي تُشكل ثقافة اليوم الإسلامية. نعم. هناك قيودٌ على كتبٍ معينة هنا، ومنعٌ لأخرى هناك، لكن هذا يأتي في إطارٍ آخر لا علاقة له بموضوع هذا المقال. فهنا، يتعلق الموضوع بجهدٍ جماعيٍ مؤسسيٍ مُنظم يقوم من خلاله ثقاةٌ من علماء المسلمين بإعلان بُطلان تلك الآراء، وبالتوافق، إما على عدم طباعتها ونشرها وإشاعتها، أو على التنبيه إلى خطئها، في أقل الأحوال، إذا كانت تُجاورُ أفكارًا وآراء أخرى تنسجم مع القيم الإسلامية الأصيلة في نفس الكتب ولنفس الكُتّاب.. وهذا الخلطُ في الإنتاج المعرفي لأسماءٍ تاريخية معروفة واحدٌ من أكبر التحديات التي تواجهُ المسلمين ودينهم.

لا نتحدث عن المسألة بشكلٍ نظري مجرَّد هنا، فأمثلة تلك الآراء (الشاذة) أكثر من أن تُحصى، وقد أوردنا بعضها في أول مقالٍ في هذه السلسلة، في حين تضمَّنَ المقال الثاني أمثلةً على أقوال معاصرين تحكم عليها بالبطلان.

ثانيًا، إن الحديث عن تحاملٍ في الإعلام الغربي، عندما يتعلق الأمر باستغلال أحداث الإرهاب وتعظيم شأنها والمبالغة في عرضها وربطها بالإسلام، حديثٌ مشروع. لكن حريق لندن الأخير أظهر لنا أيضًا أن هذا الإعلام نفسهُ لن يستطيع تجنب الإشارات الإيجابية إلى الإسلام والمسلمين، حين تظهرُ من المسلمين الممارسات العملية التي تُطلق تلك الإشارات وتحمل دلالاتها. ففي المثال المذكور، لم تقتصر وسائل الإعلام البريطانية، كافةً تقريبًا، على العناوين الإيجابية المذكورة أعلاه، وإنما أشارت إلى قصص وأحداث تتعلق بالموضوع بشكلٍ تفصيلي، فضلًا عن نقلها لأقوال شهود غير مسلمين تحدثوا عما جرى.

بل إن هناك منابر إعلام حرصت على عرض الموضوع بشكلٍ فريد، إذ أوردت أكثر من صحيفة وموقع، منها موقع BBC الشهير، صورًا مُعبّرة كان أحدها، مثلًا، لتغريدةٍ أطلقها شخص ساكنٌ قريبًا من البرج باسم (أبوعبدالله)، لكنه وجه فيها نداءه بالإنجليزية بما معناه: «إلى أي شخص تأثر بالحريق، إن كنت تحتاج لأي مساعدة، مأوى، غذاء، شراب، أرسل لي في أسرع وقت ممكن. أنا جاهزٌ لأي مساعدة». ونقلت صحيفةٌ أخرى محتوى مقطع فيديو تتحدث فيه سيدةٌ بريطانية من الناجين قائلةً: «لقد أنقذ أولادٌ مسلمون أرواح الناس. كانوا يركضون من بيتٍ لآخر يدقُّون الأبواب لتنبيه الناس إلى وجود الحريق. شكرًا لله على رمضان. لو لم يكن هؤلاء الشباب حولنا يساعدوننا، وهم عائدون من المساجد، لماتَ عددٌ أكبرُ من الناس».

ولَخَّصت شهادةٌ نقلتها صحيفةُ الإندبندنت المعنى الإنساني الذي ظهر من هذه المأساة، حين نشرت عبارة مواطنٍ بريطاني من سكان الحي اسمه أندريه باروسو قال فيها: «كان المسلمون يأتون أيضًا بالطعام والملابس لمن يتم إجلاؤهم من البرج.. كان أمرًا رائعًا أن ترى جميع الناس متضامنين».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store