Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

يوتوبيا الثقافة.. ورهانات العصر!

A A
في ظل التحولات الدولية المتسارعة والمخاطر المحدقة بالعالم العربي كيانا وحضورا ثقافيا، يُطرح الأمن الثقافي كضرورة تاريخية للاستمرار، وحاجة حضارية تضمن الارتباط بالعالم والاستمرار والانخراط فيه بدون خسران العلاقة الضرورية معه لأنّ الأمم لا يمكنها أن تعيش في عزلة. العزلة ببساطة هي رديف للموت. لهذا، فنحن أمام مفهومين للأمن الثقافي، متناقضين من حيث الجوهر خيار أول ويؤسس إستراتيجيته على الانخراط في المستقبل والانتساب أولا وأخيرا إلى الحاضر بكل صعوباته، حتى ولو في سياق اليوتوبيا والتعقيدات الكثيرة، وخيار ثان ماضوي في جوهره، يؤدي في المحصلة إلى التقهقر والموت في ظل وضع عربي مهيأ لانهيارات متزايدة، يرى في الآخر غازيا دائما، مستعيدا الحروب والغزوات التي مر عليها زمن كالحروب الصليبية والاستعمارات المتتالية وكأن البشرية لم تقطع خطوة واحدة في تحركها نحو المستقبل ونحو خير الإنسانية والتقليل مما يمكن أن يدمرها في ظل الترسانات التي أسستها الدول العظمى في الحرب الباردة والحروب اللاحقة والسابقة، وبالتالي لم يعد من خيار للبشرية إلا الوفاق والاتفاق على ما يضمن مصلحة الجميع، إذ لم يعد منطق الدولة الواحدة المتسيدة على كل شيء هو المآل، حتى في ظل القطبية الأحادية، لأن القطبية الأحادية مهما بدت مكتفية شكليا، فهي مضطرة لأخذ مصالح الآخرين أيضا بعين الاعتبار. التوافق الإيديولوجي بين ألمانيا وبقية الدول الأوروبية في معاداة الدب الروسي في الحرب العالمية الثانية لم تمنع ألمانيا من أن تتحالف مع الاتحاد السوفياتي سابقا لتدمير بقية أوروبا، ولم تمنع أوربا المتوافقة من أن تدخل حربا تدميرية ذاتية ضد بعضها البعض. اليوم بدأت فكرة القطبية الأحادية تتفكك في ظل نشوء القطب الصيني والروسي حيث المصالح ومنابع الطاقة هي سيدة كل شيء. من هنا يأتي الخيار الأول في الأمن الثقافي ليس فقط كحاجة ولكن أيضا كضرورة تاريخية تمنع الوطن العربي من الانغلاق على نفسه والتفكك داخل اليوتوبيات الدينية والماضوية. العالم العربي في ظل قسوة ما يعيشه اليوم، يحتاج بالضرورة إلى مقاومة هذا التآكل بالتفتح الضروري والعقلاني. أسئلة ورهانات كثيرة عليه أن يجيب عنها في ظل إشكالية الأمن الثقافي. كيف يحارب مثلا الإعلام المغرض الذي يذل صورة العربي يوميا في وسائل الاتصال الحديثة والسينما والتلفزيون؟. صورة العربي اليوم تختزل في الإرهابي أو في الشخصية الدينية المتزمتة التي تقع خارج الزمن وخارج التاريخ. نعرف جيدا أن هذه الصورة جاهزة ونمطية ولا قيمة لها بالنسبة للعربي، لكن المشكلة هي أنها تصنع اليوم جزءا مهما من المخيال العام عند الغربي وعند العربي نفسه، مشككة في قدراته.
قبل فترة ليست بالبعيدة كانت صورة الصيني مضحكة ومحل سخرية، بالنسبة للمخيال الغربي، وصورة التركي أيام حروب القرن التاسع عشر والقرن العشرين لم تكن أفضل. ماذا بقي من هذه الصور اليوم؟. صورة التركي بدأت تتغير بقوة باتجاه ما هو إيجابي منذ إصلاحات مصطفي أتاتورك. صورة الصيني أصبحت رديفا للنشاط الاقتصادي الجديد وحيويتها محل اهتمام متزايد بما في ذلك تعلم لغته، بينما اللغة العربية بدأت تتقهقر في كل بلدان العالم. إلى اليوم ما تزال صورة العربي النمطية ثابتة، بل وتدهورت أكثر فأكثر. قد يكون للاستعمارات دور كبير في هذه الصورة. وقد يكون للحركة الصهيونية دور مهم أيضا في تثبيت هذه الصورة، لكن للعربي مسؤوليته الكبيرة في علاقته بنفسه. فقد جعل من الدين حالة مرضية بدل الحالة الروحية المنتجة للسلام والمعرفة. حلت محل العلاقة الحيوية مع العصر، حالة مستعصية لا تقود إلا إلى المزيد من التثبت والذهاب عميقا نحو ماض لا فاعلية فيه، وكأن البشرية طوال العشرين قرنا الأخيرة ظلت في مكانها ولم تتحرك أبدا. كيف نتحدث عن الأمن الثقافي ونعيد الجهل والانغلاق؟ يجب أن نفرق بين أمن ثقافي يجبرنا على الرهان على الإنتاج الفعلي للمعرفة واللحاق ببقية البشرية والمساهمة في الجهد الإنساني، وأمن ثقافي ليس إلا الصورة المتكررة لموت حقيقي، يرتسم في أفق تاريخ وهمي نصنعه بأيدينا، وهو بالضبط ما يريده لنا الذين لا يحبوننا كلما طالبنا بمصالحنا. التخلف ليس قدرا ثابتا ولكن يمكن تجاوزهن بتقبل العصر والارتباط بآلياته الإيجابية والقبول برهاناته الكبرى وبمكاسبه أيضا سياسيا واجتماعيا وثقافيا، والخروج من دوائر الانغلاق الخانقة لكل المبادرات الحية.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store