Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

الجاهليون يعظّمون البيت الحرام.. والداعشيون يستحلونه!!

رؤية فكرية

A A
لا نعرف ما هو موقف المتعاطفين مع تنظيم «داعش» الإرهابي بعد محاولة استهداف بيت الله الحرام في يوم ختم القرآن العظيم، كما عمد التنظيم نفسه إلى مثل هذا الصنيع القبيح والقميء والفاسد في العام الماضي مع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قامت الأجهزة الأمنية في بلادنا -حرسها الله- بالتصدّي لهذه الشرذمة الفاسدة بكفاءةٍ عالية.

ونخاطب هنا ضمائر أولئك المتعاطفين؛ إن كانت لهم عقول يفكّرون بها، ونفوس يتدبّرون من خلالها، ونسوق لهم كيف أنّ قريشًا في الحقبة الجاهلية، وكانت الوثنية تسيطر على كثير من شؤون حياتها، قريش هذه عظّمت البيت الحرام، وحرّمت القتال في الأشهر الحرم، ودعت إلى «حلف الفضول»، الذي تعاهدت فيه -أي قريش- إلى أن يكون أفرادها يدًا واحدة مع المظلوم على الظّالم، بل إن الفطرة السوية دعتهم إلى عدم انتهاك حرمة بيت الله الحرام؛ فبعد أن عاد كفّار قريش من غزوة أحد، أشارت هند بنت عتبة، ولم تكن قد أسلمت بعد، على بعض بني قومها بنبش قبر آمنة بنت وهب، أم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليها بعض عقلائهم قائلًا: لا يفتح هذا الباب. وفي رواية أن زوجها أبا سفيان خاطبها قائلاً: أتريدين منّا أن نأتي بأمرٍ لم تأتِ به العرب من قبل.

وما دام الأمر قد بلغ إلى درجة انتهاك حرمة بيت الله الحرام، ومثوى الرّسول الخاتم سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّه من المفترض فينا أن نعطي الجانب الفكري حقّه من حيث البحث والتنقيب والمدارسة في فكر هذه الحركات الإرهابية المتطرفة، فإنّ ممّا يلفت النّظر للمتابع والمدقّق في ما يُسمّى بـ»حركات الإسلام السياسي»، والتي يسلكها البعض ويعدّها من ضمن الحركات المعتدلة، فإنّنا نجدها لا ترفع صوتها بالقدر الكافي لتعرية هذا الفكر الظّلامي، خوفًا من الاتباع، ورهبة من سطوتهم على رموزهم الدينية.

وبالعودة إلى منتصف السبعينيات، حيث ظهر ما يسمّى بـ»جماعة التكفير والهجرة»، وهي قد خرجت في أفكارها المتشدّدة من بعض عباءات التّيار الإسلامي السياسي، ولو وجدت من يصدها ويعرّيها وقت ظهورها، لما بلغ بنا الحال إلى ما نحن عليه اليوم.. ثم كان الحادث الإرهابي الأعظم والأفدح والأخطر، والذي انتهكت فيه حرمة بيت الله الحرام من قبل ما عرف بـ»جماعة جهيمان»، مستغلين فكرة «الإمام المنتظر»، وقد تمكّنوا وقتها من الوصول بأفكارهم إلى نفوس وعقول النّاشئة، وبعضهم دون العشرين من عمره، فجعلوهم يهجرون بيوتهم، اعتراضًا على وجود الأجهزة الإعلامية الحديثة، مثل التلفزيون.. وفي هذا السّياق لابدّ من التّصريح بأنّ هذه الجماعة اعتمدت على بعض الأفكار الواردة في رسالة ما يُسمّى بـ»الحكومة الإسلامية»، لأحد الوعّاظ المشهورين، هذه الرّسالة امتداد لأفكار صاحب «معالم في الطّريق»، الذي جعل المجتمعات الإسلامية ذات صبغة جاهلية محضة، ما يستدعي في نظره الخروج عليها بقوّة السّلاح، وهذا ما تثبته وتبرهن عليه هذه المقولة المنسوبة لصاحب «المعالم»؛ حيث يقول: «تمضي في خضم الجاهلية الضّاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا، تمضي وهي تزاول نوعًا من العزلة من جانب، ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة».

كما يمكننا هنا، حتّى لا يعترض علينا معترض أو متحمّس، أن نلفت الانتباه إلى ما أشرنا إليه من مسؤولية حركات الإسلام السياسي، وتباطؤها في النّقد، والسكون المطبق أحيانًا حيال حالات الخروج المستمر من هذه الجماعات بأفعالها المنكرة، مستشهدين في ذلك برأي المفكّر الدكتور محمّد سليم العوّا، حول جناية أفكار رموز هذه الحركات على سلوك الجماعات المنضوية تحتها؛ حيث يقول: «ومن باب هاتين الفكرتين القطبيتين دخلت إلى الفكر السياسي الإسلامي، وإلى العمل الحركي، جميع أفكار المقاطعة، والتكفير، والاستحلال، واستباحة الدّماء والأموال، وعشرات النتوءات الفاسدة التي نُسبت إلى الإسلام ظلمًا وزورًا، وشوّهت صفحته الناصعة بخطايا أصحابها، التي لا يزال المفكّرون والفقهاء والدّعاة يجاهدون نفي صلتها بحقائق الإسلام». [انظر: في النظام السياسي للدولة الإسلامية، محمّد سليم العوّا، دار الشروق، ص: 333].

ولنا أن نقارن بين هذا الفكر التكفيري، ونقيضه المعتدل المتزن، الذي يتجلى في هذه الوصية التي ضمّنها حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي في كتابه «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»؛ حيث يقول عن فقه ودراية وتمكّن ووعي: «أمّا الوصية: فأنْ تكفّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، غير مناقضين لها، والمناقضة تجويزهم الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعذرٍ أو بغير عذر، فإنّ التكفير فيه خطر، والسُّكوت لا خطر فيه».

وهذا جوهر ما جاءت به الرّسالة الخاتمة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، بدعوتها إلى حسن الظنّ بعقائد المسلمين، وعدم رميهم بالكفر، وتفسيقهم، وتبديعهم، وهذا للأسف ما تمتلئ به جعبة أصحاب الأفكار المتطرفة، والسلوك الإرهابي المنحرف اليوم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store