Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

التغيير.. من أجل الاستقرار

A A
منذ أربعة عشر عاماً، كتبتُ بنفس العنوان أعلاه مقالاً نُشر في الزميلة «الوطن»، أشرتُ فيه إلى أنني استعرتُه (العنوان)، حرفياً، من كتابٍ للخبير الاقتصادي العربي، الدكتور حازم الببلاوي، كان قد كَتبهُ قبلها بعشر سنين.

جرَت مياهُ كثيرة تحت جسر التغيير، في العالم العربي وفي السعودية تحديداً، منذ ذلك الزمن. لكن ثمة قوانينَ للاجتماع البشري وقواعد، ينفع الحديثُ فيها وإسقاطُها على الواقع الراهن كلما اقتضت الظروف، كما هو الحال في هذا الموضوع بالذات.

وإذا كان التغيير، ومعه التطوير والتنمية، حديثَ الساعة في المملكة اليوم، فإن أحد المحاور الهامة لهذا الحديث يتمثل في العلاقة بين التغيير وبين الاستقرار، بل الأرجحُ أن يكون هذا أكثرَ المحاور أهميةً، اجتماعياً وثقافياً بدايةً، وسياسياً بالتالي.

فبعكس المعنى الذي يوحي به عنوان المقال، يبدو شائعاً في ثقافتنا ومجتمعاتنا أن التغيير غالباً ما يكون سبباً لزعزعة الاستقرار. والحسّاسُ في الموضوع أن (الشعور) بالاستقرار والبحث عنه، ومقاومةَ التغيير أحياناً من أجل الحفاظ عليه، لاينحصر في الخوف من غياب الأمن الاجتماعي وانتشار الفوضى أو العنف، وإنما يمتدُّ عند كثيرين إلى ماله علاقةٌ بالاستقرار في معنى ومقتضيات (الهوية) بالنسبة إليهم.

فهنا، تحمل رياح التغيير؛ وقراراتهُ وسياساته، وأحياناً مُجرد التعبير عن الرغبة فيه وإعلان النية على الشروع به؛ معها مقادير متفاوتة من الحذر والرهبة، والخوف منه على استقرار الهوية، بالمضامين المُتعارف عليها منذ عقود، لدى الشرائح التي تتلبَّسُها المخاوف المذكورة.

ثمة مفرقُ طريقٍ هنا يتمثلُ في ضرورة الاعتراف بحساسية المسألة، بل ومشروعيتها، بالمعنى الاجتماعي والثقافي العام.. وهذا يقتضي، بالضرورة، تجنُّبَ التعامل معها بمداخل القَسرِ والكسرِ والإجبار، الأيديولوجية منها والقانونية.

قد يرى البعض أن هذه المداخل هي وحدها المُتاحة لفتح الطريق أمام عمليات التغيير، خاصةً وأن في تلك الشرائح نفسها مَن يُمارس عملية (الدفاع) عن استقرار الهوية باستعمال أساليب تحمل في طياتها معاني الإقصاء، والمُكاسرة والإجبار.. لكن وجود هذه العقلية هنا وهناك، والإصرارَ على الممارسات العملية التي تُعبِّرُ عنها، يمثل أكبر خطرٍ على الاستقرار، بكل معانيه وفي كل مجالاته، هذه المرة. وهذا ما لا يرغب في حصوله أحد.

من هنا تظهر الحاجة لاستصحاب كثيرٍ من التوازنات النفسية والفكرية والعملية، تحديداً لدى الشرائح الباحثة عن التغيير والراغبة فيه، بعيداً عن الاستجابة للضغوط الذاتية الداخلية، واللجوء لمزيدٍ من التصعيد والحشد. خاصةً ونحن نعيش في عالمٍ أصبحت فيه ما تُسمَّى «وسائل الاتصال الاجتماعي» ساحةً لكل ماهو غيرُ معقولٍ ولامقبول، وفضاءً لشحنٍ مُتبادل يَخلقُ ثقافةً مبنيةً على ردود الأفعال، وليس على الفكر والحوار والعقل والتخطيط.

وإذا أدركنا صواب المقولة التي تؤكد بأن الثابت الوحيد في الدنيا هو وجود التغيير، أو كما يُقال بشكلٍ معبّرٍ بالإنجليزية: The only constant in life is change

، والتي تنبني على استقراء قوانين الاجتماع البشري وسننه، فإن المطلوب يكمن في توضيح معنى الاستقرار وضرورته للجميع أولاً، ثم في ترسيخ حوارٍ اجتماعي ثقافي شامل يوضحُ كيف أن التغيير هو فعلاً ضمانةُ الاستقرار، حتى في مجال الهوية.

هنا نعود للدكتور الببلاوي وهو يقول: «فالتغيير ليس مناقضاً للاستقرار بل قد يكون من أهم مقوماته. والاستقرار ليس معناه الجمود وعدم التغيير بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. وكما أن الظروف والأوضاع في تغيرٍ مستمر، فكذا ينبغي أن تكون النُّظمُ والقواعد، وعدم مسايرتها لتطور هذه الظروف والأوضاع يُولّدُ المصادمات والانفجارات وبالتالي يُهدّدُ من أساس الاستقرار. فالاستقرار يتطلب توازناً مستمراً بين ظروف الحياة من ناحية والنظم والقواعد من ناحية أخرى، وهو توازنٌ لا يتحقق إلا بمتابعة هذه التطورات وأحياناً الإسراع بها وليس بالوقوف أمامها، وقُلْ أنه توازنٌ مُتحرّك أقربُ إلى توازن راكب الدراجة يستمر طالما كان متحركاً إلى الأمام، ويختلُّ وقد يسقط من فوق دراجته إذا توقف عن السير».

فإذا ما تم الاتفاق، بمُقتضيات العقل والمنطق، على صعوبة تجنّب صيرورة التغيير، لئلا نتحدث عن حتميته وندخل في نقاش الحتميات، يطرح السؤال نفسَهُ: كيف يُمكن صياغة تغييرٍ لا يُهدد استقرار الهوية؟ ،ليست الإجابة مستحيلةً أبداً كما يتخيل البعض. وإنما يتطلب الأمر، كما ذكرنا، حواراً هادئاً وشاملاً، شفافاً وصريحاً، يضمن بالتأكيد الوصول إليه. ولعل المقال القادم يطرح بعض إشارات في هذا المقام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store