Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

التعايش بين صيرورة التغيير واستقرار الهوية: وهمٌ أم حقيقة؟

A A
ثمة خصوصية حسَّاسة لسؤال الهوية في المملكة من حيث الملابسات التي أحاطت بتكوينه وتاريخه، ومآلاتهِ على وجه التأكيد.

فبعيدًا عن التجارب العربية الأخرى، اختلفت الأوضاع، تاريخيًا وثقافيًا وسياسيًا، في المملكة، عنها في تلك التجارب. بطبيعة الحال، أنتجت خصوصية التجربة معطيات مغايرة كليًا، وخلقت معها صيرورةً حملت ولا تزال تحمل مزيجًا من التحديات والفُرص.

فمن الأيام الأولى، تمت صياغة الهوية بناءً على توافقٍ نخبتين، إحداهما سياسية، والأخرى ثقافية (دينية). لكن الملفت أن عناصر الثقافة التاريخية كانت في جوهر صياغة الهوية تلك، وبشكلٍ محدد ورئيس: (الإسلام). جاء هذا استجابةً طبيعيةً للظروف التاريخية والثقافية والسياسية في ذلك الزمان. فالشعوب والدول لا تستطيع الانفكاك من تلك الظروف ومعطياتها المعقَّدة، خاصةً إذا كان الهدف الأهم يكمن في استكمال تأسيس الدولة وزرع بذور الاستقرار فيها.

لا يعني هذا أن ما جرى كان سلبيًا، بل الأرجح أنه، على العكس من ذلك، ساعدَ فعلًا في تحقيق هَدَفي التأسيس والاستقرار من جهة. فضلًا عن أنه لم يخلق، مبكرًا، صراعات كبرى حصلت في أقطار عربية أخرى تم فيها قسرًا تغييبُ المكوّن التاريخي للهوية باسم المعاصرة والحداثة، فباتت نهبًا لفوضى ونزاعات لم تستطع الخروج منها على مدى عقود.

رغم هذا، كان من طبيعة الأمور، وبمدخل قوانين الاجتماع البشري المتداخلة، أن يزرع ذلك الترتيب بذور تحديات مستقبلية ظهرت تدريجيًا، وستظل تظهر لا محالة، مع الاختلاف الجذري للظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية، محليًا وإقليميًا ودوليًا، في الزمن الراهن عما كانت عليه في الماضي. وتحديدًا فيما يتعلق بفهم الإسلام وتنزيله على أرض الواقع، كمكونٍ رئيس من مكونات الهوية، يكمنُ دائمًا خلف تقويم الناس لواقِعهم ويتحكّمُ بطريقة تعاملهم مع هذا الواقع.

بكلامٍ آخر، يجب الاعتراف بأن المسألة معقدةٌ، لا بالفهم التقليدي السائد الذي يُفهم منه استحالة إيجاد الحلول. فهذا الفهم لا يُفرز إلا احتمالين لا ثالث لهما: إما الهروب من مواجهة المشكلة، أو التصدي لها بدرجةٍ من التسطيح والتبسيط، وبعقلية المواجهة والتحدي، وهذا ما يجعلها جزءًا من المشكلة بدلًا أن تُصبح جزءًا من الحلّ.

فوصف المسألة بـ»التعقيد» الذي نتحدث عنه يعني، أولًا وآخر، الخروج من الثنائية المذكورة أعلاه. أولًا من خلال إدراكها بعمقٍ وشمول، سيرًا على مقولة تاريخية في تراثنا تقول بأن «الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره». وهي مقولةٌ تدعو لاستفراغ الوسع في فهم الظواهر قبل القفز للحكم عليها بمدخل العواطف والمشاعر وردود الأفعال المبنية، على الانطباعات السائدة، وعلى ما يتكاثر في المجتمع من وسائل لتشكيل الرأي والموقف بعقلية الحشد والتهييج البعيدة عن أبسط أدوات التحليل، لظاهرةٍ تؤثر جذريًا في حاضر المملكة ومستقبلها.

ثم إن إدراك الظاهرة بدرجةٍ من الشمول لأبعادها ومكوناتها يساعد، أهل الشأن على الأقل من المثقفين وأصحاب القرار والمختصين، على رؤية (وابتكار) سيناريوهات عديدة ممكنة للتعامل معها ومع آثارها بإيجابية. بدلًا من ترك الساحة لخطابات عاطفية، متصارعة أحيانًا، لا تملك نِصاب (الاجتهاد)، وبضاعتُها مُزجاةٌ جدًا، فيما يتعلق بمثل هذه القضية الحساسة. وهذه ظاهرةٌ يبدو الزهدُ فيها من أهل الشأن غريبًا، بل ومؤشرًا على ذلك النوع من (العجز) القاتل الذي استعاذ منه نبي الإسلام.

ما نريد قوله، رغم حديثنا عن التحدي أعلاه، أن استمرار (الإسلام) على مر العقود الماضية كمكونٍ رئيس من مكونات الهوية كان ضروريًا، ليس فقط لما ذكرناه من الظروف التاريخية، وإنما أيضًا كخميرةٍ لابد منها، في بلدٍ كالسعودية، لصناعة الحاضر والمستقبل. خاصةً مع إقرار الشريحة العظمى فيها بالتغير الجذري الذي حصل في الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية المحلية والإقليمية والعالمية. وبما يتطلبه هذا من دراسة وتحليل وإعادة نظر لمكونات الهوية التي تتفاعل مع تلك المتغيرات، وتُحقق، ليس فقط المصالح العامة، بل ومقاصد الدين الأصيلة التي ترتبط بقيمه الأساسية. وهي مقاصدُ وقيم يُمكن تحقيقها برؤيةٍ مغايرة وأساليب ووسائل مختلفة، لم تعد القوالب القديمة قادرةً على تحقيقها، بل الأرجح أنها باتت تُغيّبُها وتمحي أثرها الإيجابي.

نحن هنا بإزاء مفارقةٍ لا يصحُّ ولا يليق أن تكون موجودةً فيما يتعلق بالجهود المطلوبة، ثقافيًا وإعلاميًا وأكاديميًا واجتماعيًا وسياسيًا، لنفي التناقض الموهوم بين التغيير وضرورته من جهة، وبين استحالة إلغاء الإسلام كمكونٍ رئيس من مكونات الهوية في المملكة. ثمة مفارقةٌ تبدو أغربَ في هذا المجال: فالشريحة العظمى من المطالبين بالتغيير لا تقول بهذا الإلغاء في الكتابات والتصريحات والآراء والمقولات، والأرجحُ أنها لا تؤمن به، والمؤكدُ أنها تدرك استحالته.. وثمة شريحة واسعة من العلماء والمثقفين والكتاب المهتمين بمسألة الهوية تؤمن جذريًا بحتمية التغيير، وتُدرك أولوية وضرورة التعامل معه بفهمٍ للإسلام يستوعبه ويُحقق المقاصد والمصالح من خلاله.

فكيف ينبع ويعلو الضجيج حول ذلك التناقض الموهوم؟ وتزداد الفوضى الفكرية والإعلامية بخصوصه؟ هل يتعلق الأمر باستقالة (نُخبٍ) يُفترض أنها معقدُ الأمل في التعامل مع (تحديات) تظهر وتتصاعد في ظل غياب تأثيرهم في (الجماهير)؟.. سؤالٌ يحتاج لتفكيرٍ مسؤول.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store