Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

ولي الدين يكن.. هشاشة الشاعر العاشق لـ(مي)

A A
لم يكن الشاعر الحساس جدًا، والرقيق إلى حد كبير ولي الدين يكن (١٨٧٣-١٩٢١) شبيهًا بغيره في حبه لمي زيادة. فهو حالة خاصة تخرج قليلا عن المألوف العشقي والمعتاد. ترك لتعبيراته حرية القول إلى المنتهى الذي لم يُفهم كما يجب. فقد وصل إلى حالة ما سماه بعضهم بالإذلال والتقديس. مي التي كانت تحترم موهبته الشعرية الكبيرة وتقدرها، لم تكن تبادله الأحاسيس نفسها. لدرجة أن قال فيها بيتًا شعريًا يعبر فيه عن مأساوية حالته.

كل شيء يا مي عندك غالٍ

غير أني وحدي رخيص

يلخص هذا البيت المعاناة الداخلية التي عاشها ولي الدين في حبه لمي التي رفضت التجاوب معه. ندرك جيدًا أن مشكلة الحب لا تخضع عمومًا لمنطق مسبق، ولا للاستجابات التلقائية من الطرف الثاني: أحبني، إذن أنا أحبه أيضًا. لكن مي كعادتها مع عشاقها، لم تصده في أي يوم من الأيام. أكثر من ذلك، كانت تقدره وتحترم قلمه وجهوده الفنية الشعرية. من بين كل من كانت تعرفهم، فقد اختارته هو ليكتب لها مقدمة كتابها: سوانح فتاة. كما كتبت عنه بإعجاب كبير في كتابها: الصحائف. مقالة مهمة سبق أن نشرتها في جريدة الفجر. من شدة حبه لها، كان كلما زارها ورأى البيانو مفتوحًا، طلب منها أن تعزف له مقطوعته الأثيرة: كارمن سيلفا التي تفتح عادة شهية راقصي التانغو، قصة سيلفا مرتبطة بحكاية فتاة ألمانية أحبها وتزوجها ولي عهد رومانيا. لكن حياتها على عكس المنتظر، كانت سلسلة من المآسي القاسية والخيبات القاتلة. الغنى والسلطة لا يضمنان السعادة أبدًا. المعروف على كارمن سيلفا أنها كانت أديبة وعاشقة حساسة وهشة جدًا، مما عمق فيها نزعة العزلة. كتبت عنها مي في جريدة والدها المحروسة، في سلسلة يوميات فتاة في ٢٥ تشرين أول ١٩١٤ وكشفت عن قصتها العميقة. لم يستسلم ولي الدين يكن للأقدار التي جعلت قلب مي لا ينصاع له، إذ لم يتوقف أبدًا عن حبها حتى آخر أيامه. وظل يكتب عنها قصائد عشقية كثيرة ترسم كلها مأساة الحب المستحيل. لقد أصيب بها بقوة. وديوانه الذي جمعه بعد موته، يوسف حمدي، وقدم له أنطوان الجميل، مليء بهذه الحالات الوجدانية تجاه مي.

كان صالون مي مساحته التي تمنحه فرصة لرؤية مي، بينما ظلت الرسائل وسيلته التعبيرية عن حالة عاشق متيم يتعذب في كل لحظة. كتب لها الكثير من الرسائل معبرًا عن حنينه وحبه لها علها تستجيب، مستسلمًا لها ومنحنيًا لدرجة الإذلال كما يقول ذلك بعض النقاد. الناقد الذي اهتم بمي كثيرًا الدكتور فاروق سعد، اعتبرها حالة مازوشية والتلذذ بجلد الذات، معتمدًا في رأيه هذا على رسالة كتبها ولي الدين يكن في ٤ نوفمبر ١٩١٥ إلى مي يمّحي فيها كليًا، تحت قدميها: أقبّل الأقدام بكل إجلال، ووقعها بالعبد المخلص. وهذا الرأي، يبدو لي تبسيطيًا وظالمًا بعض الشيء في عاشق يائس. ينسى الكثيرون أن الحالة العشقية العالية تخضع للإيمان بالآخر أكثر مما تخضع للعقل. تضاهي المراتب الصوفية التي تبدأ بالمعبود وتصاعدها، لتنتهي إلى حالة التماهي في الآخر عندما يتوفر التوافق.. ومن قرأ قصائده يكتشف بوضوح هذه الحالة.

أعتقد أن من شبه حب الأقاصي بحالة الإذلال لم يفهم جيدًا هذا الشاعر العاشق الكبير، ولم يفهم الروح البشرية وتعقداتها. في كل حالة حب حقيقية، هناك حالة من الاستسلام كليًا للآخر (الإذلال؟) أي الخضوع للمعشوق كليًا وكأن هناك جاذبية من الصعب مقاومتها. بالخصوص إذا كان الحب من طرف واحد. كل قصص الحب الكبيرة مرت من هذا المنطق الخاص والمشوب بالسرية، كانت فيها مثل هذه الحالات، بما في ذلك قصة قيس وليلى بالنسبة للذاكرة العشقية العربية. ظواهر مثل هذه تحتاج إلى تأمل عميق يتجاوز الإسقاطات النفسية التي ليست دائمًا صحيحة كما فعل الباحث الكبير د. فاروق سعد. المؤكد أن ولي الدين يكن لم يكن ليسأل عن الآخرين في شأن تجاوز العقل كليًا والنظم الأخلاقية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store