Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

بين إدراك تحديات صناعة السياسة والجهل بها: مفرقُ طريقٍ حساس

A A
«التفكير الرغائبي (wishful thinking) ليس بالتأكيد طريقةً جيدة لصناعة السياسة العامة»، يقول بيورن لومبورغ، الباحث الدانماركي، والرئيس السابق لمعهد التقويم المناخي الحكومي في كوبنهاغن.

هذه قاعدةٌ يجب استذكارُها على الدوام، خاصةً حين يتعلق الأمر بصناعة سياساتٍ داخلية تستهدف التغيير والتطوير. وبالتأكيد، حين يحصل هذا في ظروف مُعاكسة، استثنائية، إقليمياً ودولياً.

نفهم (العقدة) التي تظهر أحياناً عند الكلام عن (التعقيد) الذي يلازم عملية صناعة السياسات. من هنا، وللتوضيح، لا نقصد بالكلام عن التعقيد مفهوم (الاستحالة)، ولا حتى (الانتظار الطويل). وهو ليس، بالتأكيد، تبريراً للتأخير في ظهور نتائج عمليات التغيير والتطوير المذكورة.

كل ما في الموضوع يتمثل في توضيح جوانب عنصرٍ يكاد يكون الأكثر حساسيةً في هذه القضية الإستراتيجية. لأن تبعاتِ غيابها عن الصورة كارثيةٌ على الجميع، وبكل المقاييس.

لمزيدٍ من الإيضاح، نذكر جملةً أمثلة عن ذلك العنصر تُواجهُ صانع السياسة: هناك المعرفة بحساسيات وتوازنات الواقع المناطقي والمذهبي، والخلفيات الثقافية والإيديولوجية المختلفة للشرائح الاجتماعية التي تُكوِّن نسيج البلد، وتاريخ التحالفات السابقة وطبيعة التحالفات الراهنة. هناك حسابات مراكز القوى الاقتصادية والتجارية المتضاربة، في كل مجالٍ أحياناً. هناك مداخلات القوى الإقليمية والعالمية التي يدفع كلٌ منها في اتجاه معاكس. هناك جداول الممكن وغير الممكن، والمتوفِّر والمفقود، على صعيد الإمكانات المالية، والطاقات البشرية، والكوادر التنظيمية، والأطر الإدارية. يحيط بهذا كله البحثُ عن مداخل ومواقع المشروعية الضرورية لحركة صانع السياسة قانونياً وثقافياً واجتماعياً، وسياسياً. بهذا، تبدو خارطة صناعة سياسة عامة، في مجالٍ واحدٍ، فقط، لنقل إنه البطالة نضرب عنه مثالاً بعد قليل، أكبرَ بكثير وأعقد بكثير من تلك الخارطة البسيطة التي يُمعن المواطن النظر فيها. ويتعجب من عدم العمل بها. ويشتكي من التأخير في التعامل معها انطلاقاً من رؤيته.

فوق هذا يجب على صانع السياسة أن ينظر إلى الجوانب الأخرى من مهمته، فيرى خرائطَ بنفس التعقيد ونفس التداخل في باقي جوانب صناعة السياسة العامة الداخلية التي تتعلق بحياة الناس اليومية وتصريف شؤون الدولة في كل مجال.

ولأن عليه أن يعمل وُفقها جميعاً. يجب أن يضع هذه الخرائط الشفافة بعضها فوق بعض. يحاول أن يتبين تقاطعاتها. أن يبني حلقةً متصلةً بين القضايا تؤدي إحداها إلى الأخرى. يبحث عن المشترك، حيث يمكن لحل مشكلةٍ أن يساهم في حل أخرى. يفرز المتضارب من الأمور. بحيث لاتؤدي معالجةُ قضية إلى خلق مشكلة في موقعٍ آخر. يوازن الأولويات حسب الأهمية والإمكان.

منذ ثلاثة أيام، أصدرت الهيئة العامة للإحصاء في المملكة على موقعها الرسمي تقريراً عن سوق العمل للربع الأول 2017. وهو يوفر بيانات ومؤشرات شاملة عن سوق العمل في المملكة «لتدعم متخذي القرار وراسمي السياسات الخاصة بالقوى العاملة، كما تسهم في بناء قاعدة بيانات خاصة بسوق العمل في المملكة يمكن الاستفادة منها في الإعداد والتخطيط للبرامج التنموية الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية».

هذا التقرير هامٌ وضروري، وهو يحقق أهدافه المذكورة الهامة، فقط إذا وُجدت الإرادة لفهمه والتعامل معه بشكلٍ جدي. وفي معرض كونه أحد تحديات صناعة السياسة.

لكن التقرير المذكور يحمل معه أرقاماً ذات دلالة، قد تكون مزعجةً لدى البعض. فحسب التقرير: بلغ عدد الباحثين عن عمل 906.552 فرداً. ووفق بيانات السجلات الإدارية لدى الأجهزة الحكومية، فإن نصف السعوديين الباحثين عن عمل يحملون الشهادة الجامعية، إذ بلغت نسبتهم 50.3 في المئة. فيما أشارت النتائج إلى أن 11.6 في المئة من العاطلين السعوديين سبق لهم العمل، وأن 31.6 في المئة من العاطلين السعوديين الذين سبق لهم العمل تركوا عملهم بسبب التسريح من صاحب العمل. هذا فضلاً عن أرقام وإحصاءات أخرى مُعبّرة.

لوهلةٍ أولى، ستكون حقيقة أن قرابة مليون مواطن عاطلون عن العمل في المملكة صدمةً للبعض. خاصةً مع علم الجميع بتأثيرات البطالة، ليس فقط اقتصادياً، وإنما اجتماعياً وأمنياً. لكن هؤلاء لايعلمون مثلاً أن هناك أقل بقليل من 9 ملايين عاطل عن العمل في أكثر وأقوى اقتصاد في العالم: أمريكا، في نفس الفترة!

علمياً، ماسبق من أرقام الهيئة العامة للإحصاء ليس سببه اقتصادياً فقط. ثمة أسباب، يطول التحليل فيها، تتعلق بكل ما أوردناه في النصف الأول من المقال. وتحتاج لدراسةٍ تكاملية، أيضاً، ليس حصراً من قبل أهل الاقتصاد، وإنما أيضاً من علماء الاجتماع والدين والمثقفين وغيرهم من الخبراء.

ليست صعوبةُ صناعة السياسات الداخلية وتعقيدُها شأناً يجب أن يعرفه المواطنون فقط. بل الضرورة تقتضي أن يبقى حقيقةً صلبةً لاينساها ويتناساها صانعو السياسات لوهلة. فهذا الاستحضار الدائم يساعدهم على إحاطة تلك (الصناعة) بتوازنٍ وواقعية ومرحلية يتطلبها المقام، وتفرضها الظروف والمصادر والأوليات. ثم إنه يُعينهم على منهجٍ في التواصل مع الجماهير بأساليب مدروسة تجعل توقعاتهم واقعية، بناءً على إدراكٍ متوازن لطبيعة عملية صناعة السياسة كما هي عليه في خضمّ الحياة، لا كما في الأحلام والرغبات.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store