Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

انتهاء زمن الخصوصية الشخصية

A A
أسعدني ابني البِكْر (مُلهَم) بموضوع مقالٍ له باللغة الإنجليزية تمّ نشره حديثـًا في مجلة «فوربس» المعنية بالشؤون الاقتصادية بعنوان: «مع كلّ تغريدة، أنت تكتب سيرتك الذاتية»، أقتبسُ منه هنا - بتصرّف - بعضـًا من أفكاره ونقاطه الجديرة بالنقاش.

فقبل عصر «الإنترنت»، كانت لدى آبائنا وأجدادِنا قدرةٌ كبيـرة على التحكّم في كمّية ونوع المعلومات الشخصية التي يقدّمونها لغيـرهم، وقصصهم وأخبارهم التي يسمحون بنشرها بين الناس، فوسائل التواصل ونقل الـمعلومات - مقارنة باليوم - كانت بدائية!.

فبعد عصر الشبكة العنكبوتية، وإنشاء مواقع التواصل الاجتماعي، تشجّع كثيـرون على مُشاركة تفاصيل حياتـِهم ومشاعِرهم ومشكلاتـهم وصوَرهم الشخصية وأماكن زياراتهم ووجودهم، فضلاً عن آرائهم وانطباعاتهم حول موضوعات وقضايا مُـختلفة.

وبهذه «الهيستيـريا» الجماعية التي انتشرت بشكل غيـر مسبوق، أصبحت الحياة الشخصية للإنسان في العصر الحديث مكشوفةً بتفاصيلها الدقيقة للأجيال القادمة، ومدوّنة محفوظة للأبناء والأحفاد، يمكنُ البحث عنها ومطالعتها بكلّ سهولة في فضاء الإنترنت الواسع وبشكل دائم، وهذا قد يشمل المعلومات التي يتمّ حذفها، فهي أيضا محفوظة بشكل دائمٍ «في مكان ما» في الخوادم الإلكترونية للشبكة العنكبوتية.

وبذلك، يُصبح كلّ من له منفذ «للإنتـرنت»، كاتباً لسيرة حياته وإرثه الفكري والشخصي من حيث يعلم أو لا يعلم، لاطلاع كلّ من يرغب في معرفة معلوماتٍ عنه، موثّقا عن طريق تغريداته وتعليقاته وصوره، كلّ آرائه ومشاعرِه وقيمه ومبادئه وسخافاته وأخطائه، لأجيالٍ لم تُولد بعد، وأزمانٍ قادمة الله بها أعلم.

وفي السياق نفسه، ومن خلال التعرّض المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي، يتطوّع كثيـرون بإعطاء غيرهم من الغُرباء فرصة اختـراق خصوصياتـهم ومشاركتهم أماكن وجودِهم ومواعيد سفرهم وخطواتهم القادمة، والاطلاع على صورهم الشخصية وصورِ أهليهم وأقاربهم وأصدقائهم، وأماكن عملهم وغرفِ منازلهم وأنواع أطعمتهم وأذواقهم الشخصية، بشكلٍ يستدعي أخذ رأي الخُبـراء والمختصين في العوامل النفسية والاجتماعية واضطرابات الشخصية التي تدعو المستخدمين لانتهاج هذا النهج، وكشف حياتهم الشخصية على الملأ والسماح لغيـرهم بـمراقبتهم بـهذا الشكل غير الـمسبوق، وهو ما تستفيد منه شركاتٌ مسوِّقة باستهداف أكبـر عددٍ من الشرائح الاجتماعية، واحتمال انتهاك خصوصيّـتهم وتسريب معلوماتـهم وتوجهاتهم واستخدامها حتى دون موافقتهم أو علمهم.

القضية محل النقاش بمنتهى البساطة والجِدّية، «الخصوصية الفردية» كما عهدناها سابقاً، ذهبت إلى غير رجعة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store