Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

هل «آن لنا أن نيأس ونستريح»؟

A A
العبارة أعلاه، بدون كلمة (هل)، للأديب الأردني غالب هلسا، وجاءت في روايته (البكاء على الأطلال). عاش «هلسا» حياته الصعبة بين بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق، حتى توفي في عاصمة الشام عام 1989م، ونُقل جثمانه إلى مسقط رأسه في اليوم التالي.

من السهولة بمكان أن يفهم المرء سبب إيراد هذه العبارة مع العلم بخلفية حياة الرجل في العواصم المذكورة على مدى ثلاثة عقود على الأقل قبل وفاته، حيث عايش وقائع وأحداثاً مرت بها خلال تلك الفترة، هي قطعاً تاريخية واستثنائية.

العجز. هذا واحدٌ من أصعب المشاعر التي يمكن أن تصيب إنساناً في هذه الحياة. وهو طريقٌ سالكٌ بامتياز إلى اليأس عند الغالبية العظمى من الناس. لكن حدة الشعور به عند المثقف، الذي يعيش هموم بلاده وأهله، أقوى بكثيرٍ منها عند غيره.

سُئل فنانٌ عربي مرةً عن زهده في إنتاج مواد إبداعية نقدية كان يشتهر بإنتاجها سابقاً فأجاب قائلاً: «أصارحك أن السبب قد يكون هو الشعور بالإحباط. لقد كنت أظن في مرحلةٍ من المراحل، ومعي العديد من الفنانين والمثقفين، أن من الممكن لنا أن نغير الدنيا من خلال الفن والكلمة.. ولكن الواقع العربي فيما يبدو أثبت لنا عكس ذلك «. وإذا كان لسانُ المقال يعبرّ عن مشاعر البعض بصراحةٍ ووضوح كما حصل مع الرجل، فإن لسان الحال يبدو أكثر تعبيراً بالنسبة للغالبية العظمى من المثقفين والكتاب والمبدعين، الذين أصابهم اليأس والإحباط من قدرة كلمتهم وفنهم وإبداعهم على تغيير أي شيءٍ في هذا الواقع العربي الذي يبدو قاسياً وصعباً .

ما الذي يمكن للمثقف أن يقوم به في مثل هذا الحال؟ الأملُ والعمل. لامهرب من هذا الخيار إلا الاستسلام الكامل للعجز، ومعه اليأس، بشكلٍ لايليق به وبدوره ومسؤوليته في هذه الحياة. يمكن، حتماً، تسليط أشعة الحرمان على هذا الكلام عبر وَصفِهِ بالشاعرية والرومانسية والمثالية في التفكير. لكن هذا، بحدِّ ذاته، يمثل المأزق الذي يعيشه مثقفٌ، مستقيل، لم يعد هذا الوصف الجميل ينطبق عليه ابتداءً.

ماهي إذاً عناصر معادلة الأمل والعمل؟ أترك الإجابة لإلماحةٍ متميزة طرحها الزميل ياسين الحاج صالح عن الأمل يقول فيها: «أشعر أن الأمل هو شيءٌ نعطيه لأنفسنا، شيء نتعب عليه كي يبقى معنا وكي ينمو. بين الأمل والعمل في العربية جناسٌ ناقص، لكن بينهما رباطاً معنوياً كاملاً. الأمل موقف نشيط للنفس، ليس تعليلاً وإرقاباً مثلما يقول الطغرائي في (لامية العجم)، وإن لم يكن أيضاً عملاً يسير وفق مسارٍ متوقع، مفضياً إلى نتيجة محددة معروفة سلفاً. العمل المفرط التنظيم، الذي يقترب من عمل الآلة، لا أمل فيه ولا يعد بانبثاق أو خلق أو ولادة... مشكلتُنا مع الأمل أنه صغيرٌ هش، بينما نحتاجه في كل وقت فإنه بحاجة إلى كل طاقتنا على العمل وكل ما قد نستجمع من ذكاء وخيال كي يبقى معنا وينمو. ومشكلة الأمل معنا أننا نتخلى عنه بيسرٍ أمام الصعاب، ونركن إلى اليأس. ولعل مصدر هشاشة الأمل هو يقين الموت في النهاية، فناؤنا الشخصي وانتهاء أعمارنا. لكن الأمل نفسه لا يموت، يبقى معنا رغم هذا اليقين. فهو قرين الحياة.

لسنا محكومين بالأمل، على ما يقول أستاذنا سعد الله ونوس. الأمل خيار وليس قَدَراً ولاعادة، وهو خيار شاق وغير مضمون، خيارُ أن نقاوم ما يحكمنا من سلطات وعادات وأفكار، أن نجدد أفكارنا وحياتنا، أن نغير أنفسنا ونحن نعمل على تغيير العالم كي يصير أكثر عدالة وحرية وأكثر ملاءمة لإنتاج آمال أكبر.الأمل فعل مقاومة فردي واجتماعي، صحيح، لكن من المنظومات الاجتماعية والسياسية ما لا تسمح بصناعة الأمل، منظومات يائسة أو منتجة لليأس ومعممة له... الأمل قرين الحرية مثلما هو قرين الحياة، يصنع الناس الأمل بدرجة تتناسب مع كونهم أحراراً. المنظومات الاجتماعية الصانعة للأمل هي التي توفر حريةً أكبر لأعداد أكبر من الناس. الحرية ليس بالمعنى السياسي والقانوني فقط، ولا بالمعنى الاقتصادي أيضا فقط (الكفاية المادية)، وإنما كذلك حرية التفكير والتخيل والخروج على المعتاد والتفنن بالحياة. الأمل لا يتوافق مع الركون إلى أوضاع بعينها وعادات قارة. للحياة الثابتة المنوال مفعول الآلة المنتظم، المانع للانبثاق والولادة، والنافي للأمل. مفعول يقين الفناء أيضاً، إن هو استبد بالحي. كيف نلتذُّ بالعيش وأنفسنا مطلوبة للموت، يتساءل أبو العتاهية. لكن لا نأمل رغم أننا ميتون، بل لأننا ميتون، ولأننا نقاوم موتنا ولا نكف عن إرجائه... الحياة المحدودة هي (فسحة الأمل) التي تكلم عليها الطغرائي، وما دمنا أحياء فنحن قادرون مبدئياً على أن نخلق أو ننتج أو ننجب أو نبدع، الأمل هو قوة انبثاق الجديد الحي في حياتنا، هو حياةُ الحياة، الحياة المضاعفة، تلك اللحظات التي نقول فيها إننا عشنا بالفعل، ونحسبها من أعمارنا».

مامن راحة، أبداً، في الاستسلام لليأس. والقبول بعكس ذلك وهمٌ كبير لايمانعُ صانعو اليأس في ترسيخه بكل ما أوتوا من قوةٍ في مجتمعات العرب وثقافتهم المعاصرة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store