Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

سلامة موسى.. الانقلاب العاطفي المجنون

A A
بعض الناس ينقلبون نحو الطرف النقيض في علاقاتهم العشقية، بدون مسبقات ظاهرة، من الحب الكبير، إلى الكراهية وربما حتى الضغينة.. لأنه في العمق أحد الطرفين لم يلب رغبته الكامنة كما يجب.. ربما انطبق هذا على الكاتب التنويري الكبير، سلامة موسى.

لهذا يحتاج أمره إلى توقف أطول من هذه الإثارة.. الرجل كان يكن احتراما بلا حدود لعائلة زيادة، وبالخصوص مي، التي كانت معجبة باتقاد عقله وذكائه وجهوده المعرفية لتغيير المجتمع المصري.

ما الذي غيره من حبها إلى كراهيتها؟ كيف حدث الانقلاب بعد موتها لدرجة أنه أصبح يستغل أي مناسبة كبيرة للإساءة إليها بشكل معلن.. ربما، وهذا افتراض وجيه من الناحية النفسية، لم يحصل سلامة موسى طوال قربه من مي، على مبتغاه. تعلمنا الدراسات النفسية عند فرود تحديدًا، أن الحب الكبير يمكن أن يكون قاعدة للحقد الكبير في حالة الإخفاق.

فقد تعرف على مي بعد عودته من لندن صحفيًا مميزًا.. كان قد سمع عنها كثيرًا وتمنى التعرف عليها.. اللقاء الأول بها كان حاسمًا.. الصورة المصنوعة عن مي زيادة كانت أقل قوة من حضورها الفعلي.. من شدة إعجابه، وصف لقاءه الأول بها في مجلة المستقبل ١٩١٤: «لم أمكث طويلا في غرفة الاستقبال من سكنها الرحب في شارع المغربي وأنا أمعن النظر في جملة الصور البديعة، التي تزين الحيطان... دعجاء العينين، يتألق الذكاء من بريقهما.. على الرغم من سعة اطلاعها واستنارتها، لا تزال أبعد النساء عن الاسترجال وأشدهن أنوثة.. كثيرة التواضع والاستكانة.» اكتشف سلامة موسى صورة أخرى لمي.. غير صورة الفتاة المدللة والدلوعة، التي ارتسمت في ذهنه.. امرأة ذكية وجريئة ومدافعة عن رأيها، وصلبة، ولها شخصية متينة.. هذا ما ذكره هو نفسه في مجلة آخر ساعة.. عدد ٩٢٤ في ٩ تموز ١٩٥٢. وكتب عنها مقالة إطرائية كبيرة في مجلة الهلال. ومن شدة إعجابه بحضورها ومنجزة، وإعجابها به، فقد تم تعيينه كمشرف على جريدة المحروسة في ١٩١٤، بعد انهيار مجلة المستقبل التي كان يعمل بها، وإفلاسها.. المحروسة لاقت بينهما وعمقت علاقتهما. أظهر لها في الكثير من اللحظات حبه لها وإعجابه بها. هذه الصداقة الجميلة والثقة الكبيرة، دفعت بها إلى أن تضع بين يديه كتابها: بين المد والجزر الذي صدر في ١٩٢٤ ليقدمه لها. يقول عنها: مي تكتب للشرق بعقلها وللغرب مكان في قلبها. فهي تؤمن بالحضارة الأوربية. تعيش عيشة الغربيين، وتتزين بزيهم، وتفكر تفكيرهم. ولكن قدر لها أن توجد في وسط شرقي فهي تكتب بلغة هذا الوسط... أما عن ترقية نفسها فلست عرف أديبًا يعني بذلك بمقدار عنايتها. فهي تعرف خمس لغات أجنبية، وتجيد الكتابة في اثنتين.. وظل يمدحها في أعمالها حتى وفاتها، ويرى فيها نموذجًا متميزًا في الكتابة والتأمل والفكر.. فهي متعددة الاهتمامات: ثلاث شخصيات في واحدة. شاعرة باللغة الفرنسية والعربية، مترجمة من الألمانية والفرنسية، وكاتبة اجتماعية ومتابعة للحركة النسوية.

لم تكن العلاقة بينهما عادية ولكنها ثقافية متطورة.. لا أعتقد أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك على المستوى العاطفي.

ظلت محكومة بالعديد من الثوابت الثقافية الدينية، التي تلقتها في عينطورة، كما حدث في علاقتها مع العقاد، الذي ظل يؤاخذها على هذا النوع من الثقافة المكبلة. من الصعب على سلامة موسى، المادي والمتحرر أن يقبل بعلاقة لا تذهب أيضًا نحو علاقة تحرر الجسد والعواطف.. كان يريدها كمثقفة وكامرأة. لم نعثر على رسالة واحدة تؤكد هذه العلاقة المحتملة، التي قال بها الكثيرون.. ليس دفاعًا عن مي، فالحب لا يُدافَع عنه إذا كان حقيقة، فهو حق إنساني لكل فرد. كل الدلائل المتوفرة اليوم تقود إلى افتراض علاقة من طرف واحد. فقد حمل رفضها له كإهانة داخلية غير مستساغة. بعد وفاتها بزمن قليل، وجد فرصته. فتغير رأسًا على عقب لدرجة أن اتهمها أنه استخف بكل جهودها وأنها لا تهتم بالعلوم. ونسي أنها كتبت عن الحدس البرغسوني، وفلسفة نيتشه، وكوبيرنيك، وفولتير في مجلة المقتطف، التي تعاونت معها مي كثيرًا. لم يرحمها حتى في موتها. كل الوثائق الطبية المتوفرة، تربط موتها بحالة الأزمة النفسية الحادة، التي تحولت إلى انهيار عصبي كانت وراءه أيامها في العصفوية وعائلتها.

يقول سلامة موسى يصف أيامها الأخيرة بشكل صحيح لأن وثائق مستشفى المعادي الذي ماتت فيه، تقول شيئًا آخر. يقول في مقالته، ذكريات عن مي: «رأيتها في أحد الأيام مبتذلة في رثاثة، شاذة وهي تحمل كرنبة كبيرة تسير بها نحو بيتها. صامت عن الطعام في أيامها الأخيرة.

فكانت تبول وتتبرز في أنحاء المسكن، وعلى الفراش، وسائر الأثاث. وماتت جوعًا وإن لم تحس أنها ماتت جائعة.. لا أحد غيره قال بهذا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store