Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

مركز المناصحة: عودة الابن الضال (1)

A A
يظن الكثير منا -كما ظننت قبل زيارتي لمركز محمد بن نايف للنصح والرعاية- أن ما يدور بداخله لا يتعدّى جلوس بعض رجال الدين أمام إرهابي لمحاولة إقناعه بأخطائه الفكرية، ثم إطلاق سراحه بعد انتهاء الدروس والنصائح. لكن المفاجآت المتتالية التي شهدناها في الداخل بدّدت تلك الصورة النمطية البسيطة، وتركت انطباعًا قويًا بقيمة هذا المركز وأهميته القصوى كجزء من منظومة المحافظة على الأمن الوطني.

يسير هذا المركز في تعامله مع التشوهات الفكرية لمن انخرط في خط الإرهاب في مسار مختلف، فحيث إن من السهل اختيار القوة مع هؤلاء المنحرفين عن الطريق السوي ومعاقبتهم والانتقام منهم، فقد اختار المركز المسار الصعب، كونه الأفضل والأقوى والأكرم والأجدى، ألا وهو طريق التسامح والاحتواء المستقى من توجيهات ديننا العظيم ومن الرسالة الربانية والنهج المحمدي الكريم. فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلَته بأرضٍ فَلَاة،....).

حين نتعلم المعنى العميق لهذه الفرحة بعودة التائب، نستطيع أن نفهم دوافع وأسس إنشاء هذا المركز المتفرّد، فهناك مواقف شديدة في الحياة لا يصلح معها إلا فل الحديد بالحديد، وهناك مواقف أخرى يستحسن فيها صب الماء على النار.

مركز محمد بن نايف عبارة عن مؤسسة إصلاحية تربوية تدعمها وزارة الداخلية بسخاء شديد لاحتواء جميع السعوديين المنضمين للجماعات الإرهابية، وتتم فيها المعالجة الفكرية التوعوية والتأهيل النفسي في جو من الحرية والثقة بالذات والشعور بالمسؤولية الفردية. حين يتم تحويل الفرد من السجن إلى المركز بحكم قضائي فهو يتحول من «سجين» إلى «مستفيد»، ويتغير مسمى «زنزانته» إلى «شاليه»، وتُترك له حرية التحرك داخل المركز، كما له حق الخروج للزيارة لمدة 72 ساعة مزودًا بمبلغ 2000 ريال. كذلك يمنح المركز المستفيدين مبلغ 10 آلاف ريال عند تخرجهم، إضافة إلى 50 ألف إعانة عند الرغبة في الزواج، والتكفل بكل تكاليف الحج.

تخضع هذه الفئة ذات التوجهات المتطرفة إلى برامج تعمل على اجتثاث القناعات العقدية الفكرية على أساس عدم الإجبار على اتباع إلا بما يتقبلونه، لا بما يُملى عليهم قسرًا وذلك لترسيخ القناعات البديلة. تقوم فلسفة المناصحة على حرية الاختيار مع اطلاع الفرد بتبحر على مجريات الأمور، وعلى حقائق العقيدة السمحة. المناصحة ليست شرعية فقط، بل تتداخل معها الاجتماعية والنفسية والإرشادية التي تتم من خلال جلسات متخصصة يقودها فريق من أصحاب العلم والخبرة في المجالات العلمية المتنوعة، وتعقد في المركز دورات التثقيف الاقتصادي والتاريخي والسياسي وتنمية الذات والمعالجة بالفن التشكيلي. كذلك يهتم المركز بالصحة البدنية للمستفيدين، فإضافة إلى تقديم الوجبات الصحية المفيدة، فإنه يوفر لهم العناية الطبية ويتيح لهم ممارسة جميع أنواع الرياضة، لتنشيط العضلات وتحرير شحنات الغضب. ولا تنقطع علاقة المركز مع المستفيد حتى بعد خروجه لتشجيعه ومؤازرته في عملية اندماجه مع بيئته المجتمعية، كما تقدم له خدمات تساعده على تيسير هذا الاندماج وتدعمه وأسرته ماديًا ومعنويًا.

في هذه الأجواء من المساندة والتسامح تتوفر للابن الضال العزلة التي يحتاجها لمراجعة نفسه وأفكاره والصفاء النفسي الذي تغذيه الجلسات المتخصصة بالفكر الإيجابي وبالأمل والمحبة والعطاء. برنامج المناصحة هو محطة تنقله من الضلال إلى التوبة والفكر المستقيم، وتحوله من فرد متحجر الفكر ومتيبس القلب، إلى مواطن صالح مؤهل للعيش السوي، ومن شخص تاه في دروب الكراهية والتوحش، إلى إنسان يتحسس طريقه إلى جادة الصواب. عندما يعود الابن الضال إلى حياضك، لا يسعك إلا أن تحتضنه وتغمره بإحسانك حتى تكسر حدة جفائه ونفوره وقسوته.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store