Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

حياة ثالثة.. رواية ليالي الحرير لعائشة البصري

A A
نص روائي يستند على كل الوسائل الإيهامية التعبيرية، الرسائل، الوثائق، أثاث البيت، والعطور وفعل الغيبوبة الذي يفتح واسعا المجال التعبيري الحرّ ومساحات الكتابة والتخييل. طريقة بسيطة وعفوية، لكنها مهمة إذ تسمح للساردة أن تنشئ خطاباتها حتى ولو كانت بين الحياة والموت. بين الغيمة الهاربة وحرائق الحياة الحقيقية والباردة في حالات الصحو المحسوسة. تقول فيها الشخصية الساردة مرضها، ولكن تقول أيضا موتها الذي عادت منه مرتين، بعد الغيبوبة التي التقت فيها بذاكرتها المشبعة بحياة الطفولة وبالكثير من ناس الصدفة الذين التقت بهم في حياتها. من هنا أتى نص ليالي الحرير مؤثثا بالأسماء المهمة في الحياة الثقافية، والتربوية والإنسانية، الذين يقدمون أنفسهم بأنفسهم في النص، بشكل حر وبلا وسائط. كالشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لاقتهما صدفة المطارات. الروائي المغربي محمد شكري الذي سماها عيشة قنديشة، عائشة الكونتيسة، خوان رودريغو المتعدد الأوجه، وأمها... امرأة ترفض أن تعيش حياة باردة كتلك التي عاشها أبوالعلاء المعري في رسالة الغفران. تمر الصور متسارعة في ذهنها ولا يهمها منطقها ولا الدلائل المقنعة، فهي دليل نفسها. تستغل الساردة لحظة الغيبوبة لتصفي كل حساباتها مع الحياة والأفراد، معلنة بصراحة عن رأيها المشاكس بقوة ورفض في الكثير من الأحيان. وعندما نقوم بلملمة هذه التفاصيل من خلال فعل القراءة، تتضح القصة كونها تعبيرا عن شاعرة عاشقة للحياة، أصيبت بحالة غيبوبة لا تعرف مصدرها. يحتمل أن تكون الأسفار الطويلة التي قضتها داخل الطائرات. الغيبوبة شطرت حياتها إلى قسمين. حياة تبدأ منذ لحظة دخولها إلى المستشفى، عندما توقف قلبها ثلاث مرات، إضافة إلى تنفسها الذي كاد أن يتخلى عنها. فقد ماتت إكلينيكياً ثم أعادها الأطباء إلى الحياة. ماتت ثانية، وتوقف قلبها ونفسها. ولولا الصعقات الكهربائية التي أعادتها إلى الحياة مرة أخرى لماتت نهائيا وانتهى كل شيء. لكنها امرأة مصرة على الحياة باستماتة في وعيها ولا وعيها. هذا الوضع الإنساني القاسي مزق حياتها إلى ثلاث مِزَقٍ. ثلاث حيوات متقاطعة. الحياة الأولى في علاقة الساردة بزوجها وعائلتها التي لم تكن دائما حياة هادئة وسهلة. ثم الموت المؤقت بكل رؤاه الخفية أثناء الغيبوبة، فهي ترى أشياء كثيرة تسكنها، تستعيد من خلالها تفاصيل حياتها عن طريق الرسائل أو غيرها. ثم تموت مرة أخرى مؤقتا بتوقف قلبها، وتستعيد حياتها بعد أن تم إيقاظها وهي بين حياة المستشفى التي تعيشها بوعي، وحياة الغيبوبة التي ترى فيها حياة أخرى. حياة سرية. تستعير وجها نسويا آخر، وبيتا آخر. تبكي عندما ترى الرجل البدين يضرب المرأة بقوة، وهي ترفضه قبل أن تستسلم له. هناك انفصال واندماج مع الشخصية الروائية. تقترب منها حتى تصبح هي في سجال خلافي مع زوجها الذي سرق منها حياة بكاملها، وحولها إلى قوقعة فارغة. يصبح الماضي الذي تستعيده ليس لحظة سعادة، ولكن انكسارا مؤذيا وقاسيا. العودة إلى الواقع هي حياة أخرى. حياة التفاصيل اليومية الخاصة بمسارها الحياتي كما عاشته. وحياة العلاقات الخارجية المتشظية. حياة الغيبوبة هي الداخل السري غير المعلن عنه. الذات المنكسرة في مواجهة أعطابها الكثيرة ومحاولة استنطاق الغياب. تساعد ديمومة الغفوة القريبة من الموت في تحرير الهامش الذي يتراوح بين الوعي واللاوعي، الوضوح والغموض. يأتي ذلك كله مواكبا لشطط الخيبة والألم، ولكن أيضا الإصرار على الحياة. الحياة لكي تستمر، تحتاج إلى من يناديها ويوقظها، ويلتصق بها حتى آخر لحظة، وأن لا يتركها تذهب وتنزلق من بين يديه. حياة الواقع. حياة الغفوة. ثم الحياة الثالثة التي تتشكل من العنصرين السابقين. المساحة التي تقول فيها عذاباتها وخيالاتها أيضا وافترض حياة ممكنة، تفتح أفقا جديدا للاستمرار حتى ولو كان ذلك في العقد الخامس. العقد الخامس لا يعني الموت ولكنه يعني الاستمرار والخروج من موت مفروض، والتوجه نحو حياة أخرى وممكنة. تبقى نهاية الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات، يعطيها إيقاع درويش وبورخيس لمسة سحرية من النور والأمل، وسط عالم من التخييل المعتم.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store