Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

جنون «يجاهد».. أم «جهاد» مجنون؟ (٢ من ٢)

A A
استنكر البعض تغريدات حسام الأطرش، القيادي السابق في (هيئة تحرير الشام) التي تحدثنا عنها في الجزء الأول من هذا المقال، والتي تفضح أبومحمد الجولاني أمير الهيئة. فانبرى للشهادة الشيخ حسن الدغيم إمام نُشطاء الثورة السورية، والعليم بأخبار الفصائل الإسلامية قائلاً: «هذا كلامٌ نقوله من خمس أو ست سنوات.. القاعدة وبناتها أحد تشخصات الثورة المضادة على الثورة السورية.. والعلاقة بين التنظيم ومفرزاته مع إيران ليست جديدة، بل هي استراتيجية وليست تكتيكية، علاقة هؤلاء مع الشعب السوري تكتيكية وعلاقتهم مع الشعب العراقي تكتيكية، أما علاقتهم مع إيران فاستراتيجية.. أبوحفص الموريتاني، الشخصية الشرعية الأولى في تنظيم القاعدة يقول: إننا وقَّعنا مع إيران بحيثُ نكون في ضيافتها ونلجأ لها، والفيديو متوفر.. وهم موجودون من 2001 إلى 2011 في فنادق أصفهان إلى فنادق كهرمان.. وأبومصعب الزرقاوي، أستاذ أبومحمد الجولاني، وأمير ذباحي علماء العراق وسنة العراق، كان في أصفهان لمدة ٦ أشهر، وأبوبكر ناجي صاحب كتاب (إدارة التوحش) كان مذيعًا في الإذاعة الإيرانية.. وكان دخولهم وخروجهم مُسهلاً بجوازات إيرانية.. هل تعتقدون أن الزرقاوي كان يَذبح المخابرات الإيرانية؟ لماذا لم يفضح العدناني المجرم الظواهري شيبة الضلال عندما قال له: «نحن ساكتون عن إيران بطلبٍ منكم ومن قيادتكم». وهكذا سَلِمت منهم طهران وكرمان وبوشهر والمفاعل النووي وقوات الحرس الثوري، وكانوا يُفجّرون بدلاً من ذلك مراكز الشرطة في الأنبار والرمادي.

لقد كانوا يذبحون المدنيين السنة، ويستهدفون النخب بشكل خاص.. رأينا هذا كله في العراق من قبل، فلماذا تستغربون من علاقات أبومحمد الجولاني بإيران؟ تركوا الناس تنتفض ضد الحوثيين في اليمن ثم ضربوهم من الخلف.. الحراك السني، 7 محافظات سنية وصلت لمشارف بغداد فقام أبوعمر البغدادي وأبوبكر البغدادي وحجّي بكر باختراع لعبة الخلافة والتمدد في بلاد الشام لإيقاف الحراك... المال يملأ المغارات التي تحت سيطرتهم حتى الآن، وماهي إلا برهة وستنزل المروحيات التي ستنتشل أبومارية العراقي وأبوحفص التونس وأبوقحطب الجزائري، هم وحقائب اليورو والدولارات مع عملائها، وتقتل الشباب المساكين البسطاء الذين يعتقدون أنهم يجاهدون في سبيل الله، كما يحصل اليوم في دير الزور والرقة والحسكة... فمتى ستصحون أيها الشباب المساكين الذين تقاتلون عند واحد مجهول التوجه والسياسات والانتماء؟ قضيتنا السياسية هي إسقاط النظام وإقامة دولة الحرية والعدالة والقانون وترك الشعب السوري يختار من يُمثله، هذه ثورتنا، وهذه ثورة الكرامة والحرية».

ثمة أمران مهمان في هذه الشهادة: الأول يتمثل في مصداقيتها ودقة المعلومات الواردة فيها، وذلك من واقع معايشة الشيخ الدغيم الحميمة والداخلية والمباشرة لكل مراحل تطور الحركات الجهادية وفصائلها في سوريا بعد انطلاق شرارة الثورة السلمية فيها بقرابة عام، وملاصقته للتفاصيل المتعلقة بتلك العملية.

لكن ماهو أكثر أهميةً يكمن في أن ممارسات الشيخ الدغيم ومواقفه على مدى السنوات الماضية، والتي عرَّضتهُ ولاتزال لخطر الاغتيال، تأتي بمثابة الشهادة أيضًا، ولكن العملية على كثيرٍ من رجال الدين السوريين الذين تأخر انتباههم لخطر ظاهرة (النصرة)، وحتى (داعش)، بشكلٍ كبير.

تحتاج هذه الظاهرة لدراسةٍ أكثر شمولاً، ولكن البحث في أدبيات هؤلاء يُظهر عُمق المشكلة وقِدَمها، ففيها تجدُ تعاطفًا واضحًا مع الممارسات الأولى للآباء الفعليين لجبهة النصرة وممارساتهم، وطريقتهم ومنهجهم في التعامل مع الواقع العالمي والإقليمي الضاغط على المسلمين في المنطقة والعالم؛ حيث كان هؤلاء يرون أصلَ العلاقة مع العالم على أنها علاقة صراعٍ، وصراع وجودي في أغلب الأحيان. وكانوا مقتنعين بأن محاولات جرح وخمش الوحش العالمي عمليةٌ محمودة، حتى لو كانت نتيجةُ الأمر أن يجري ما يرونه (صراعًا أزليًّا) في ساحة قوته الساحقة والطاغية (السلاح والعنف)، ويعني بالتالي أن الغلبة في هذه الساحة ستكون له نهاية المطاف، باعتبار سنن وقوانين الاجتماع البشري السائدة.

من هنا، ورغم كل التحليلات والكتابات والآراء التي كانت تُحذِّرُ مُبكرًا من ظهور (النصرة) في سوريا، بسبب كونها جزءًا من تنظيم (القاعدة)، ومن خطورة ذلك على البلاد والناس والثورة، إلا أن القبول، بل والترحيب أحيانًا، كان منهج تعامل الغالبية العظمى من رجال الدين السوريين مع هذه القضية.

وكان هذا بناءً على الرؤية أعلاه، وهي تتضمن فيما تتضمن أُخوّةَ المنهج ووحدة الهدف، اللذان يُعتبران فوقَ كثيرٍ من الحسابات الاستراتيجية وأهمَّ منها؛ لهذا استمر القبول بها رغم استمرار وتزايد ممارساتها السلبية لفترةٍ مقدرة، ثم انتقل الموقفُ إلى الحياد والصمت لوهلة، حتى انتقل بعدها، مؤخرًا، إلى الرفض الكامل والإدانة لها وتحميلها إراقة دماء المسلمين ودعوة أعضائها للانشقاق عن قيادتها ودعوة باقي الفصائل للرد على بغيها، ولكن بعد خراب البصرة كما يقولون.

ثمة جذور عميقة إذن لهذا الجنون الذي نراهُ باسم الجهاد، وإذا كان دورُ إيران وسواها من الجهات يبدو واضحًا بازدياد للجميع، يبقى الحديث الخافت والخجول والمتردد عن أسبابه الذاتية في المنظومة التراثية الإسلامية، وبين رجال الدين تحديدًا أمرًا بحاجة لتغيير حاسم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store