Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

وللمعلمين نياشين أيضاً

A A
هذه الدنيا صغيرة.. أو (صُغَيَّرَة) كما حفظناها باللهجة المصرية المشربة بالسكّر..

وهي عبارة صادقة على ما يبدو، خصوصًا إذا فكَّرنا في علاقة المعلم بأبنائه الطلاب.. فتصبح الدنيا صغيرة ويصبح الزمان سريعًا، ليرى المعلم حصاد ما غرسه من معرفة وأخلاق وانطباعات عامة لدى من يمر عليه من طلاب. ولعله من المفيد أن يضع المعلم هذه الحقيقة في ذهنه على الدوام، وفي الدوام. أعتقد أن كل معلم يحتاج لأن يترك انطباعًا طيبًا في نفوس طلابه، ليستطيع التأثير فيهم، ليتخذوه قدوة إيجابية، وليذكروه بالخير أولًا وأخيرًا. هذا لا يعني -بطبيعة الحال- أن يتنازل المعلم عن قِيمه ومبادئه من أجل أن يذكره طلابه بالخير؟! هم لن يفعلوا إن فعل!

تحدَّثتُ في مقالي الماضي عن معلمي الأول والأخير، وعن إخلاصه وتفانيه، وحزمه وصرامته، ورغم ذلك فقد ظلت علاقته بكثير من طلابه متصلة حتى بعد أن حملته أمواج العمر بعيدًا عن شواطئ الشباب.. قبل سنين عشر أو أكثر، وجد أبي نفسه تائهًا في قرى الجنوب القصية، (هل قلتُ قصية خطأ!؟) فتوقف ليسأل شابًا عن الطريق، وعن بعض الأماكن القديمة. حكى له أنه كان معلمًا في تلك الديار. حاول الشاب دعوته لكنه اعتذر، دله على الطريق.. وبعد قرابة نصف ساعة -يقول أبي- سمعتُ أبواقَ سيارات، وصراخًا، وإطلاقَ نار.. فتوقفتُ، لأجد رجلًا بلحية كثيفة يُقبل عليَّ ويُعانقني ويقول: حي أهلًا بالريح التي حملتك لي يا أستاذ خميس، أنا ابنك سعيد، من طلابك قبل أربعين عامًا، وحقٌ علي ألا تغادر دون ما تستحق من ضيافة.. قضى أبي أيامًا جميلة عند تلميذه الشيخ ذاك، لم يفتأ رحمه الله أن يذكرها.

وقبل عامين كنت في حفل زفاف حين اقترب مني شخص لا أعرفه مهللًا ومرحبًا، وقبل أن تخلع الحيرة رداءها عن وجهي أخبرني أنه كان تلميذًا من تلاميذ أبي قبل ثلاثين عامًا، ويدين له بكثير من الفضل.. تلميذ أبي هذا أصبح صديقًا من أصدقائي الخلّص.

أعلم أن مثل هذه المواقف ليست غريبة على المعلمين، بل لعلها العلامة الفارقة التي تميز حياتهم عن غيرهم.. هي مثل تلك النياشين التي تزيِّن صدور العظماء من القادة، لكن التذكير بها حلوُ المذاق دومًا: قبل عقد من الزمان، وذات مساء بريطاني هادئ، مر مسؤول السكن الذي أقطنه، برفقته ساكن جديد يأخذه في جولة حول المكان. لكن ذلك الساكن الجديد توقف فجأة واقترب مني.. وحيّاني، ثم سأل: أنت أستاذ عادل؟ قلت: نعم.. قال: راعي الماكسيما؟! فأجبت: بشحمه ولحمه.. لكن من غير ماكسيما!! فاحتضنني ذلك الشاب اللطيف الذي لم يكن إلا طالباً من طلابي في مرحلة الثانوية. اسمه محمد معدّي، ونناديه معدّي فقط.. وقد أصبح منذ ذلك اليوم صديقًا قريبًا، قضيتُ معه أجمل أيام الغربة. كان معدّي ولا يزال نافذة جميلة في حياتي لا أذكرها إلا وأبتسم. هو يعكف اليوم على رسالة الدكتوراه في الهندسة المدنية، في ولاية قصية من ولايات العم سام... هل قلتُ قصة خطأ!؟ قلتُ إن هذه الدنيا صغيّرة، ومن يدري، لعلَّ طالبًا من الطلاب معدّي يدخل عليه ذات صباح، يسلم عليه ويُغنِّي له، كما فعل الحطيئة:

من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيَهُ

لا يذهبُ العُرْف بين اللهِ والناسِ

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store