كاتب هذه السطور مهتم بالتاريخ الاقتصادي للمملكة على نحو اهتمامه بتاريخ رجال الأعمال العصاميين وخاصة سماتهم وتجاربهم كجزء معرف بالقادة وشروط القيادة. هذا الاهتمام يدفعني لزيارة التاريخ للتنقيب في قصص رجاله والتأمل في تعرجاته وتبدلاته. ففيه ما خفي وما اختفى وما بقي سواء في الشكل أو المحتوى. ولاشك أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- من أبرز القادة الذين يشدونك لإعادة قراءة سيرهم وتفكيرهم وتسامي نظرتهم للحياة وللناس وللاقتصاد، لا عجب فقد تفرد -طيب الله ثراه- بتعدد الخصال القيادية والريادية.
بمناسبة اليوم الوطني أقلب تاريخ الدبلوماسية السعودية التي تؤكد السمات القياديه للملك عبدالعزيز مثلما تؤكد اختياراته الموفقة للرجال. التي اتسمت بتطبيق معايير علمية وإدارية مهنية، استصحبت أبعادًا عروبية فضلا عن المواطنة. رجال المؤسس يعبرون عن رؤيته في غربلة الاختيارات ودقة المعايير. والأمثلة كثيرها ولكن أبرزها، ما تضمنته سيرة السفير جميل مراد بارودي الذي كان سفيرًا للمملكة في واشنطن في الفترة من 1963- 1979م . لم تمنع ديانة جميل المسيحية من أن يكون سفيرًا للمملكة في واشنطن وسفيرًا فوق العادة للأمة العربية وعميدًا لمناديبها الدائمين بالأمم المتحدة. وما يقال عن اختيار السفير البارودي يمكن أن يقال في اختيارات الملك عبدالعزيز للسفير حمزة غوث سفير المملكة لإيران حيث كان وطنيا غيورًا وعروبيًا متميزًا وإنسانًا مبرأً من الأفكار الدخيلة التي غزت الثقافة العربية اليوم.
من يقرأ في تفاصيل سيرة السفير جميل بارودي يجد أنها تتوفر على مواقف مثيرة للاهتمام تؤكد عمق رؤية الملك المؤسس والملك سعود والملك فيصل والملك خالد -طيب الله ثراهم أجمعين-. ففي حرب 1973 استخدم السفير بارودي بلاغته للدفاع والمنافحة عن قضايا فسلطين والعروبة. رغم الحملات الإعلامية لم يتزحزح عن مواقف المملكة والعرب قيد أنملة. وسجل السفير جميل البارودي مواقف مشرفة خاض فيها سجالًا شرسًا ومثيرًا في منابر الجمعية العامة للأمم المتحدة. حين أعلن أن دعم المملكه للفلسطينيين أو حرب أكتوبر من أولوياتها وستظل تدعم الدول العربية في الجبهتين السورية والمصرية ضد العدوان الإسرائيلي. وفي تحدٍ لبعض الأصوات قال: إن الأمة العربية وجدت في هذه الأرض لتبقى وأرضنا من سوريا في الشمال إلى السودان في الجنوب ومعركتنا ثقافية وسننتصر فيها. وقال: إن العروبة لا تقوم على العرق ولا على الجنس وإنما على الثقافة العربية فمن اكتسب الثقافة العربية فهو عربي.
وفي رده على سفير إسرائيل في الأمم المتحدة يوسف لكو الذي اتهمه بأنه (ضد السامية) قال له (Shut up
أو اخرص). ثم حدثت بينه ووكيل الأمم المتحده لشؤون الجمعية العامة مخاشنة لفظية في هذا المعنى. وفي السياق نفسه اشتبك في عام 1973 مع مندوب شيلي الذي كان يمالي إسرائيل. لهذا قال الدبلوماسيون عنه أنه صاحب أسلوب ميلودرامي يتعمد فيه وضع البهارات والمحسنات البلاغية مما يجعله جاذبًا وجعل أسلوبه محفزًا للثناء. مع ذلك هناك من انتقده فقد وصفته مجلة التايم بأنه (مثل قنبلة موقوتة) أو مثل صاروخ غير موجه. وأوردت الآيسوشيتدبرس بأنه صاحب مهارات تمكنه من التنقل بين القضايا الإنسانية بصورة تثير ارباك من يتعامل معه. ووصفه كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة بأنه من أميز مناديب الدول في الأمم المتحده.
إن مواقف المملكة التاريخية اتسمت بالأفق الواسع وظلت ثابتة مما أكسب القيادة الرشيده ثقة العالم. هذا الثبات جعل السفير جميل يدافع عن نظام الدكتور مصدق وعن حق الإيرانيين في تأميم نفطهم. ولم يمنعه من نقد الولايات المتحدة الأمريكية ووكالة استخباراتها بل وأتهمها بأنها لا تجمع معلومات على نحو ما تفعل الاستخبارات العالمية وإنما تقوم بدور الرشوة وتدبير المؤامرات كما في حالة الإطاحة بحكم الدكتور مصدق في إيران. كان صريحًا وشفافًا ويحكى أنه قابل زميلًا أمريكيًا من أسرة روزفلت في المملكة وسأله ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيد كيرمت روزفلت؟ أجابه لبناء علاقات عامة!! قال له:هل أنت متأكد؟.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
