Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

تحية كاريوكا.. طوبى لامرأة أنقذت المفكر أنور عبدالملك

A A
هناك الكثير من الأحداث التاريخية والحياتية البسيطة، تمر أمامنا يوميًا ولا نعيرها أي انتباه، مع أن وقفة صغيرة عليها تجعلنا نكتشف ببساطة ما يتخفى من أفعال وممارسات غيرت البشر عميقًا، وجعلتهم ينظرون إلى الحياة بشكل مخالف، وعميق أيضًا، من هنا يجب أن ننحني تحية إجلال ومحبة واعتراف أمام تحية كاريوكا التي تبدو اليوم كتاريخ انتهت فاعليته، لماذا؟، طبعًا ليس لدورها في تحرير المرأة، فهو معروف لدى الكبير والصغير، ولا لتمثيلها المميز، فقد كانت وراء جيل من الممثلات اللواتي اخترقن حجاب العفة المكبل، ولا لرقصها الشرقي الذي أسس لمدرسة مستقلة، ولكن لدورها النضالي، نعم دورها النضالي الذي لا تعرفه إلا القلة القليلة، فقد قامت بما لم يقم به غيرها، أنقذت شخصية عربية فكرية من اغتيال كان شبه مؤكد في الفترة الناصرية، يتعلق الأمر بالباحث المصري الكبير أنور عبدالملك، الذي توفي عن عمر يناهز 88 عامًا، في صمت، بأحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس، في منفاه الاختياري الذي لجأ إليه في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، هربًا من تعسف وعنف النظام الناصري، وشيعت جنازته في كنيسة «المرعشلي» بحي الزمالك بالقاهرة، مات في الغربة في عزلة كلية، واحتاج المثقفون المصريون إلى جهود كبيرة لنقل جثمانه إلى مصر لدفنه في وطنه، استمر في الحياة حتى سن 88 من عمره، بفضل تلك اللحظة الاستثنائية التي اختارت فيها تحية كاريوكا أن تغامر بحياتها، وتنسى أنانية الفنان فيها، وتتجاوز خوفها وتقدم على اتخاذ تهريب المفكر الكبير نحو بيتها وإنقاذه، هو الذي، منذ طفولته، لم يتوقف والده عن تعليمه كل شيء: التاريخ والجغرافيا، والمعارك الكبرى، واللغات، وحين رحل الأب، كان أنور الصغير قد تجاوز ثماني سنوات، تولاه عمه فؤاد مؤسس جمعية الفنون الجميلة بالرعاية الأصيلة، فاصطحبه إلى المتاحف، والمسارح، والأوبرا، فتفتحت عيناه، في سن مبكر، على الفن والفلسفة والخيال، وشاهد مسرحيات نجيب الريحاني، واستمع إلى أم كلثوم، وأغرم بالموسيقى الكلاسيكية، حصل ذلك في الخمسينيات وكان أنور عبدالملك قد تحصل فيها على ليسانس الآداب في الفلسفة عام 1954 من جامعة عين شمس. ويعد شهدي عطية الشافعي، أحد أبرز المفكرين الماركسيين المصريين الذين اغتيلوا في سجون عبدالناصر في الستينيات، المعلم الأساسي والأول لعبدالملك ولتحية كاريوكا، إذ كان وقتها منفتحًا على عصره وثقافته، فمن خلاله، التحق عبدالملك بأحد التنظيمات اليسارية، قبل أن يلقى القبض عليه لمدة عام ويتمكن من الهرب من السجون الناصرية، في تلك اللحظة بالذات وجد المرأة التي أعطت لحياته امتدادا آخر، الفنانة الشهيرة وقتها تحية كاريوكا، التي خبّأته في منزلها، وساعدته بكل ما تملك من حيل وقوة وأصدقاء، لإخراجه إلى فرنسا، مخاطرة بحياتها بشكل مجنون. كشْفُ عملية تهريب المفكر، يعني الإعدام بلا تردد. لم تفعل ذلك فقط حبا وإعجابا بالمفكر وكتاباته التحررية، ولكن احتراما لفكرها وقناعاتها في حقّ الإنسان أن يكون حرا. واستطاعت كاريوكا، من خلال شبكة الأصدقاء الذين وفروا له جوازًا مزورًا، من أن تهربه نحو فرنسا، فيغادر مصر دون أن يتنبه له البوليس السري. فقد لعبت كاريوكا دوراً سياسياً مهما، مثلها مثل أبناء جيلها من المثقفين الملتزمين، من أجل تحرير وطنها من كل أدوات القمع والظلم. فقد ألقي عليها القبض العديد من المرات، بسبب قناعاتها السياسية، ونشاطها السري في أحد التنظيمات اليسارية. وربما أهم من أعاد لها الاعتبار لها، هو إدوارد سعيد. بسبب مساعداتها للكثير من المثقفين، ذاقت مرارة المراقبة والسجن والمتابعة. المرحلة الأخيرة من حياة أنور عبدالملك وامتداد فكره، تدين بالكثير لتحية كاريوكا التي خبأته قبل أن تفتح أمامه أبواب الهجرة الإجبارية. تعتبر تلك اللحظة حاسمة في حياته لأنها ستسمح له للذهاب إلى فرنسا لمواصلة دراسته للفلسفة وعلم الاجتماع في باريس. من هناك يحصل على الدكتوراة في علم الاجتماع، ودكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون بفرنسا، ويصدر بعدها، الترجمة العربية لأطروحته بعنوان «نهضة مصر». تلك اللحظة المنقذة التي مددت في حياته المهددة بالفناء، سمحت له بأن ينشغل بالتطورات التي حدثت في المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وكانت موضوع كتابه «المجتمع المصري والجيش» الذي أعجب به عبدالناصر نفسه، وهو الذي سجنه في الخمسينيات. طوبى لتلك المرأة العظيمة التي وضعت حياتها في الميزان مقابل إنقاذ المفكر أنور عبدالملك. قبلة على جبينها، وانحناءة لعظمتها، وهي هناك حيث تتساوى الأشياء والبشر.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store