Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

قيادة المرأة للسيارة والنضج المجتمعي

A A
لا يمكننا أن نحتفي بالقرار الحاسم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين بخصوص السماح بقيادة المرأة للسيارة خارج إطار منظومة الإصلاح الشاملة لكثير من القوانين التنظيمية في الدولة، وخاصة فيما يتعلق بوضع المرأة، فالقفزات التي تقرها الدولة من أجل تحسين وضعها، وزحزحة الصعاب التي تعيق مسار حياتها الطبيعية تتوالى بسرعة مدهشة. منذ دخول المرأة إلى مجلس الشورى ونحن نراقب التقدم المطرد في تمكين المرأة، وتعزيز مكانتها في المجتمع، سواء بالابتعاث والتعلم، أو فتح مجالات العمل، أو في التعيينات في المناصب الحكومية، أو في تسهيل إجراءات تعاملها مع المرافق الخدمية، أو في ضمان حقوقها الأسرية، أو في تقديمها بفخرٍ واعتزاز إلى الواجهة كمواطنة ذات أهلية.

كان الخبر منعشًا ومبهجًا، ليس فقط لأفراد المجتمع السعودي، ولكن على مستوى العالم، فقد أشاد بالقرار الكثير من المسؤولين، وتصدّر الخبر معظم الصفحات الرئيسة لأشهر الصحف وأهمها، وشهد القاصي والداني بأن هذا يوم استثنائي وقرار تاريخي. كم كلفنا هذا الملف من صبرٍ وتضحيات، وتحمُّل الإحراجات، ولكننا كُنَّا نعرف أن القرار كان مُقيَّدًا بجاهزية المجتمع وتقبُّله للتغيير الأكبر. كانت قيادة المرأة للسيارة المعقل الأخير والأصعب على الاقتحام، فقد مررنا من صراعاتٍ وجدل مُشابه في شططه ورفضه ومعارضته مع لعبة كرة القدم، وركوب الدراجة الهوائية، ومناهج التعليم، والراديو، والتلفزيون، والدش، والقنوات الفضائية، والجوال، وكاميرا الجوال، وقد تجاوزنا كل الحواجز الكلامية، وتغلبنا على كل بلبلة استخدم فيها نفس النقاش والأدلة والحجج، وبقيت السيارة التي تحولت إلى تابو لا يمكن الاقتراب منه، فكيف بإزاحته!!

كانت عيون العالم تُراقبنا، وسؤال «متى تقود المرأة السعودية سيارتها» يُلاحقنا، فقد كان الشغل الشاغل لكل كبيرٍ وصغير، قريبٍ وبعيد، صديقٍ وعدو. كان القرار المجتمعي بحاجة إلى الكثير من الرصد، ومتابعة طرح السؤال، وقياس الردود في كل مرة، كما كان بحاجة إلى الكثير من التروي والحكمة، فأي حركة غير محسوبة قد تؤدي إلى عكس النتيجة المرجوّة.

كان في تقدم المرأة إلى الواجهة سواء في مجلس الشورى أو عند منافذ البيع، أو في الساحات العامة ما يشبه الاختبار وتلمس مدى تقبل المجتمع لحضورها القوي كفردٍ ظاهر، كإنسانٍ صاحب حق وقيمة، وقد أعطت كل المؤشرات نتائج في معظمها إيجابية، وحين آنست الدولة من أغلبية شعبها رشدًا، أعطت إشارة البدء. اللحظة التاريخية هي تلك التي يحسن اقتناصها حين تكون مواتية، بلا إرباك ولا صدام. جاء القرار حاسمًا، وحكيمًا، وفي وقته المناسب، كالفرج بعد طول تأزم.

إن كان المجتمع قد نضج بما يكفي لتحمُّل مسؤولية القرار، فإن إثبات مدى هذا النضج سيأتي في مرحلة تطبيق القرار، وبالطبع فالأمر سيسبقه الاستعداد، وسيحكمه التنظيم، وسيضبطه القانون، لكن النضج المجتمعي سيتبدّى في التعامل اليومي لحضور المرأة خلف مقودها في الشوارع. المجتمع السعودي ليس بدعًا من المجتمعات، لكن تأجيل الولوج إلى التجربة حتى وقتها المناسب أقام الأسوار، وبنى المخاوف، وزاد من الغرابة. حين تسوق المرأة سيارتها، فعبء النضج مشترك بينها وبين رجال المجتمع، حتى يكون التعامل معها حضاريًا وراقيًا.

بالطبع ستكون هناك بعض المواقف وبعض العقبات، لكنه عدم التعود الذي سيتلاشى تدريجيًا حين يزول الاستغراب، ويألف الناس التغيير الذي طرأ.

وختامًا، دعونا لا ننسى أن الحوادث في شوارعنا تُسجِّل نسبة عالية من قبل أن تقود المرأة، وأن النساء في كل العالم لهن تأثير حضاري على حركة المرور، فقيادتهن هادئة لا عنفوان فيها ولا «مجاكرة»، وتعقلهن يفرض التسامح والعفو، وهن أكثر التزامًا بالقوانين، وأشد حرصًا على تحديد الاتجاهات والتمسك بخط السير المحدد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store