Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

ثم أبوك

A A
ربما سرى في الناسِ قول حافظ إبراهيم:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها

أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراقِ

وهذا حقٌّ لا ريب فيه مطلقًا، وأثرُ الأمِّ هو الأولُ. ولكنّه لا يُلغي بحالٍ حقيقةً أخرى، هي أنَّ (الأب) كذلك مدرسةٌ يتوقَّفُ عليها تخرُّجُ جيلٍ من الأبناء يحمل المسؤولية، ويُحسن التدبير، ويجيدُ التعامل مع ظروفِ الحياة وصروفها.

وبالنسبةِ للأبناء الذكورِ خاصةً فإنَّ الجانبَ القويَّ من شخصياتهم لا يصقلُهُ سوى الأبِ.

وحين أتأمّلُ في مسيرتي الحياتية أجدُ أن كثيرًا من جوانبها كان لوالدي -رحمه الله- بصمةٌ فيها لا تُمحى. فقد كان رحمه الله حسن التوجيه، جيد التربية، قويّ التأثيرِ.

وكان يغتنم المواقف والأحداث ليغرس في أبنائِهِ معانيَ تبقى معهم ما بقوا أحياء.

ومازلتُ أذكرُ موقفًا تعلمتُ فيه كيف أصغي لكلام أبي، ولكلام الكبارِ من ذوي الرأي والمشورةِ، تعلمتُ ذلك بالألمِ ولكنه كان تعليمًا لا ينسى.

كان للوالد رحمه الله مصنعٌ للطوبِ، وكانوا في ذلك الوقت (يطبخون) الطوب بالحطبِ، فإذا فرغوا -وقد صار الحطبُ جمرًا- لم يطفئوه بالماء، بل يهيلون عليه التراب حتى ينطفئ، فيبقى الفحم بذلك صالحًا لاستخدام آخر، فيباع على المقاهي وغيرها.

وكنتُ ذات يوم بجوار الوالد وهو يحاسب العمال آخر الدوام، فقال لي: يا بنيّ، لا تبتعد عني، ابق هنا، فقد يؤذيك شيءٌ من آثار العمل، لم أصغِ إليه، واغتنمتُ انشغاله فذهبتُ، ورأيت عن بعد كومةً من ترابٍ، فقفزتُ فوقها أريدُ اللعبِ، ولم أكن أعلم أن تحتها جمرًا يتلظى! ولا أن هذا الترابَ ساخنٌ وكأنّه النار ذاتها، فاحترقتْ قدمي، وصرختُ بأعلى صوتي، وجاء العمال إلى أبي يخبرونه، فما تحرك! وقال: دعوه يتحمّل عواقب مخالفته لكلام أبيه!

صدقًا لم أتجرأ بعدها على مخالفته في كلمةٍ واحدةٍ حتى ماتَ رحمه الله، ومازلتُ بعد موته أحرصُ على التزام ما كان يوصي به!

كان تعليمًا قاسيًا.. ولكنّه حفر في النفس معنى لا يذهبُ أبدًا.

وفي مقابل هذه الشدةِ كان رحمه الله ينمي فينا الثقة بالنفس، هل تتخيلون أنه استدعاني يستشيرني في بيع أرضٍ قيمتها قرابة المليون وأنا وقتها في الابتدائية!! قال لي: يا بكري، أريد بيع الأرض التي فيها محلُّ لبيع المواد الغذائية فما رأيك؟ وكنتُ شخصيًا أبيعُ في هذا المحل يوميًا بعد الفجر إلى أن يحين وقت المدرسة، فقلتُ له ببراءةٍ: طيب وأنا فين أشتغل؟ فضحك رحمه الله.

وحين كبرتُ تحولتْ معاملته تمامًا، صار يعاملني كصديقٍ مقرب، وكان يقول لي: «أنت صاحبي يا ولدي، والمثل يقول: إذا كبر ولدك خاويه». وفي تلك المرحلة كان التشجيع على خوض التحديات والمشروعات سمة ًظاهرة، لكن مع شرط مهم: أن تتحمل وحدك النتيجة ربحًا أو خسارة!

عرضتُ عليه ذات يومٍ مشروعًا وطلبتُ منه تمويله، فقال لي: سأفعل، وإن نجحتَ فلك كلُّ ما يأتيك من أرباح، وإن خسرتَ فتسيءُ لسمعة أبيك، وتتحمل النتيجة، قلت: نعم، واشتغلت وأكرمنا الله بأرباح لم نكن نتخيلها أبدًا.

هكذا كان أبي.. وهكذا هو كل أبٍ حريص على حسن تربية أولاده.

رحمه الله رحمة ًواسعةً.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store