Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

بلورة هوية جديدة في السعودية: تويتر أم حوارٌ وطنيٌ شامل؟

A A
خلال العقد الماضي، شهدت المملكة نشاطًا فريدًا، حتى على مستوى العالمين العربي والإسلامي، تمثَّل في تنظيم جملة مؤتمرات تحت عنوان: «الحوار الوطني». تنوعت مواضيع تلك الحوارات لتشمل عناوين مثل: «الوحدة الوطنية»، «الغلو والاعتدال»، «المرأة: حقوقها وواجباتها»، «الشباب: الواقع والتطلعات»، و»نحن والآخر: رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية».

واليوم، بعد عقدٍ من تلك الأيام، تشهد السعودية سلسلة مراسيم ملكية تتعلق بكثيرٍ مما تم الحوار بشأنه في تلك المؤتمرات. بل إن هذه المراسيم تكاد تكون تعبيرًا عمليًّا من صانع القرار السياسي عن توصياتٍ صدرت عن المؤتمرات المذكورة.

ومع أهمية صدور هذه القرارات، وتأثيرها المتوقع في واقع المجتمع السعودي، تأتي أهمية خلق التوافق الاجتماعي حولها، وترسيخ التوازنات الثقافية والفكرية التي ستساعد على استيعابها في أوساط المجتمع بشكلٍ فعال، يجعلها تصبُّ فعليًّا في عمليات التنمية والتطوير.

فمع كل مرحلةٍ انتقالية حساسة وحاسمة في حياة المجتمعات، وهذا توصيفٌ دقيق لحال المجتمع السعودي اليوم، يوجد دائمًا تعقيدٌ كبير يحيط بعمليات تنزيل القرارات على الواقع البشري. وثمة دومًا عناصر عديدة متشابكة تدخل في تنفيذ القرار وتؤثر في إمكانية تحقيق أهدافه. وهناك، باستمرار، توازنات حساسة وحسابات دقيقة وخطوط حمراء ومقتضيات تفرضها الجغرافيا السياسية والثقافة والتاريخ. وهذه بأسرها تلعب دورًا في كيفية تفاعل المجتمع مع القرار السياسي، وتحديدًا لجهة هضمه وإدراك جوانبه الإيجابية، وامتلاك القدرة النفسية والعملية على التعامل مع مايُعتقد أنه يمكن أن يكون جوانب سلبية، على الأقل حسب بعض التفكير التقليدي السائد.

في هذا الإطار، تعود فكرة عقد مؤتمر للحوار الوطني لتصبح فكرة استثنائية في أهميتها ودورها. والحقيقة أن أدبيات العلوم السياسية تُؤكد أن المؤتمرات الوطنية كانت على الدوام، ولاتزال، تُعتبر من أكثر الوسائل فعالية لإحداث تغيير في المجتمعات، وللانتقال من مرحلة إلى أخرى، بشكل يكون سلميًّا وشموليًّا وفعالاً في نفس الوقت. يصدقُ هذا على كثير من التجارب في أمريكا الجنوبية وفي إفريقيا، كما يصدق على تجارب أخرى في جنوب شرق آسيا وفي أوروبا الشرقية. وهناك من الدراسات والأبحاث والكتب الموجودة حول هذا الموضوع مايستحق النظر فيه ومراجعته خلال الإقدام على تنفيذ مثل هذه التجربة.

تنبع أهمية الفكرة هذه المرة من عدة اعتبارات؛ فعلى الصعيد السياسي يمكن لهذا النشاط أن يصبح الخطوة الأولى الضرورية لإعادة (تسييس) المواطن السعودي -إن صحَّ التعبير- على قواعد أكثر توازنًا وواقعية. وذلك من خلال تشكيل ثقافة سياسية تبتعد تدريجيًّا عن الأوهام والأحلام والفردية، وتدرك حقيقة التغييرات التي اجتاحت العالم، وصعوبة وحساسية عملية رفع الواقع باتجاه المثال، وتأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تؤثر في مختلف مراحل العملية السياسية، من التخطيط إلى التنفيذ إلى التقويم والمراجعة.

وعلى الصعيد الاجتماعي، تؤدي المؤتمرات الوطنية لتنفيس الاحتقان الاجتماعي الذي عادة ما يتشكل بين أصحاب الانتماءات المذهبية أو القبلية أو الطبقية أو الفكرية المختلفة في المجتمع. وعلى الصعيد الثقافي، تساهم فكرة مؤتمرات الحوار في خلق ثقافة القبول بالرأي الآخر والرضا بالتعددية والاعتراف بأن الإنسان يعيش دومًا مع (الآخر) المواطن، وفي إدراك أنّ لهذا الآخر رأيًا وثقافةً ومصالح وهمومًا وتطلعات يجب أن تؤخذ في الحسبان، وأن التحدي الكبير الذي يواجه الجميع يكمن في كيفية تشكيل هوية وطنية متطورةٍ جديدة موحدة تكون وعاءً يجمع كل ذلك التنوع، ولكن بما فيه المصلحة المشتركة لكل مكون من مكوناته.

يمكن -طبعًا- لوسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة أن تكون أداةً فاعلة لتشكيل رأيٍ عام تجاه بعض القضايا الهامة، والمجتمع السعودي تحديدًا قابلٌ لمثل هذه المهمة، بناءً على كثافة استعمال تلك الوسائط فيه، وبنسب تفوق المعدلات العالمية.

لكن ثمة محذورًا يجب الانتباه إليه في هذا المجال. فاستعمال هذه الوسائط يمكن أن يُصبح دائمًا سيفًا ذو حدّين. إذ يصعب في هذا المسار ضبطُ قضايا وممارسات يمكن أن ينتج عنها نقيض الهدف المطلوب. فمن المزاجية إلى الحدّة في التعبير، ومن عقلية الانفعال وردود الأفعال إلى سهولة الدسّ والتلاعب، ومن الكتابة بخلفية أيديولوجيا الذات الواحدة إلى غياب الشعور بالمسؤولية العامة، يمكن جدًّا لتلك الوسائل، بما تحمله من رسائل، أن تكون مدخلاً للفوضى والتشويش والتنابذ وتقسيم الصف الوطني.

بالمقابل توفر فكرة الاجتماع الشخصي بين أبناء المجتمع فرصةً أكبر للتعارف والنقاش والحديث الصريح الشفاف في أي مخاوف متبادلة، وتفسح مجالا رحبًا لتداول المقترحات العملية، وتُخفف من الشخصنة، وتدفع إلى الانطلاق في هذا كله من الإحساس بالهمّ العام والارتقاء إلى مستوى يليق بحساسيته.

وقبل هذا وبعده، تَخلقُ مثل هذه الفعاليات شعورًا عميقًا، وضروريًّا، بالمشاركة في صناعة القرار من قِبل الجميع. وإذا كان أرسطو قد وصف الإنسان، منذ آلاف السنين، بأنه بطبيعته حيوانٌ سياسي، فإن مثل هذا الاجتماع البشري يجعله أقدر على الشعور بإنسانيته ومكانته ودوره في صناعة حاضره ومستقبله. وهذه مشاعر لاتضمن، فقط، تنفيذ القرارات السياسية، وإنما تضمن معها استمرار الأمن والوحدة والاستقرار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store