Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أويس عبدالرحيم كنسارة

السعّادةُ الزُّلال.. تكمنُ في الانشغال!

A A
* كنت شديد الانشغال ذات مرة، في الأسابيع النهائية لدراستي، وكدت أعتذر عن كتابة المقالات طيلة ذلك الشهر، ولكني عزمت المحاولة لتنظيم الوقت، كي أظفر بلقائكم... وما النتيجة؟ كتبت أفضل مقالاتي تلك الفترة بالذات، وكنت أسلمها على الموعد أو قبله أحيانًا، بينما حين حلت الإجازة الصيفية وأصبحت فارغًا متفرغًا، حدث أن ساء الوضع، وخدعني الفراغ، حتى أهدرت الوقت، وأصبحت لا استدرك هذا الخداع إلا في اللحظات الأخيرة.

* هذا الموقف البسيط رسّخ قناعتي بأن الانشغال يولِّد الإنجاز، ويحسّن المزاج، ويزيد الإنتاج، وتذكرت حينها النصيحة الإدارية التي تقول: إذا أردت إنجاز مهمة على أكمل وجه، فأوكِل بها شخصًا مشغولًا!

* ومع تراكم التجارب أيقنت أن الانشغال نعمة عظيمة، وبِتُّ أحسد المشغولين أو أغبطهم، كلما تملّكني كابوس الفراغ. عندما يصبح اليوم حافلًا بكل ما يشغلنا، تصبح عقولنا حاضرة، باللحظة الحاضرة، ولن يتمكّن الألم ولا رواسب الماضي من اجتياح تفكيرنا.. الانشغال يمنح النسيان، والذي ينشغل لن يجد مساحة في عقله للنزاعات والسطحيات وتفاهات الأشياء.

* على مر التاريخ، ستجد أعظم الإنجازات حققها أولئك الأشخاص الذين تمردوا على مناطق الراحة الاعتيادية لهم، وأصبح وقتهم ضيقًا جدًا، لا ينامون منه سوى ٤ ساعات، الانشغال رفع مستواهم وإمكانياتهم كما رفع بالضرورة صحتهم النفسية وعزز الثقة في نفوسهم.

* فحيثما تواجد الفراغ، امتلأ من تلقاء نفسه بالهم والاكتئاب، والعادات السيئة والإدمانية، بل تصل المواصيل لأكثر من ذلك. ولهذا تجد معظم الأطباء النفسيين ينصحون مرضاهم بمختلف أعراضهم بشيء مشترك واحد: هو أن يجدوا شيئًا ينشغلون به. فاليوم المفعم بالحركة والحيوية يجدد النشاط الذهني ويُشعر الإنسان بالأهمية وتحقيق الذات، وهو الذي يقع بقمة هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية.

* أما الدراسات العلمية فلم تثبت أن المشغولة أوقاتهم هم الأسعد فحسب، بل أكدت دراسة أمريكية أجراها باحثون في مركز دراسات الدماغ والعمر الحيوي بجامعة تكساس في دالاس، أن الحياة اليومية المشغولة تعود على صاحبها بأداء عقلي وذهني أفضل من غيره عندما يصل لمرحلة الشيخوخة.

* فراغ الحياة هو نتيجة لفراغ الهدف، والذي لا هدف له، لن يكون انشغاله إيجابيًّا، فمتعة الانشغال تكمن في تحقيق الطموحات، وتجسيد الأحلام، وأي حياة بدون رغبات وأحلام؟ الإنسان بدون هدف يصبح في ضنك الحياة وبُؤسها عائمًا في فراغها بلا طعم ولا لون ولا رائحة.

* من الكلمات الجميلة في الأغاني العتيقة: (اتعب عشان ترتاح، دا حلاوة الدنيا كفاح!) دائمًا أستحضر لنفسي هذه العبارة، حلاوة الحياة في الكفاح، والذي لا يتعب، لن يستمتع بلذة الراحة، ‏ولا فرحة الإجازة.. لذلك احلم وخطط واعمل وغامر وانتهز الفرص.. انشغل واتعب.. عشان ترتاح!

***

** لفتة: ‏(لقد جربت زحمة الأعمال، ‏وكثرة الإرهاق، ‏فوجدت الفراغ أصعبُ منها بكثير!)

(علي الطنطاوي)

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store