القوة الناعمة لمدننا

في مقال نشرته لي مجلة مكة الصادرة عن أمارة منطقة مكة المكرمة ذكرت فيه قيامي خلال السنوات الماضية بزيارة عدد من المدن في أنحاء متفرقة من العالم، وكانت كل مدينة تمنحني شعوراً خاصاً مختلفاً عن الأخرى، بشكل أشبه ما يكون بالبشر الذين نلتقيهم للمرة الأولى لنخرج من كل لقاء بانطباعات متباينة إيجابية أو سلبية عن كل منهم. فمنهم من يشعرك بالملل والضجر أو بالفرح والانطلاق، القلق والريبة أو الألفة والطمأنينة. منهم من يأسرك بجماله ويبهرك بثقافته فتتمنى أن يطول اللقاء ويتكرر، ومنهم من تجده مصطنعاً متكلفاً يرتدي الغالي والنفيس لكنه خالٍ من أي فكر وعمق، تراه مرة ولا تحرص على لقائه مجدداً. المدينة مثل الإنسان لديها روح، وإذا كان أقسى ما يوصف به إنسان هو نعته بأنه بلا روح، فإن ذات الوصف هو أقسى ما توصف به المدن وأكثر ما يحول بينها وبين القدرة على الجذب والتأثير.

هذه الجاذبية والتأثير هي في الواقع أمر بالغ الأهمية وينبغي النظر إليها باعتبارها أحد أهم عناصر القوة الناعمة للبلد وجزء لا يتجزأ من دبلوماسيتها العامة، وهو أمر أصبحت العديد من المدن حول العالم تدرجه ضمن خططها الإستراتيجية. وفي هذا الجانب نشر المجلس الثقافي البريطاني British Council

ورقة بعنوان «المدن، الازدهار والتأثير: دور دبلوماسية المدن في تشكيل القوة الناعمة في القرن الواحد والعشرين». تناولت الورقة القوة الناعمة للمدن وأهميتها وكيفية صناعتها مشيرة إلى أن تلك القوة تتجلى بشكل مباشر وغير مباشر: فالجانب المباشر يتمثل في قيام المسئولين في المدينة بوضع خطط وإستراتيجيات للتواصل الدوري والتعريف بها كوجهة جاذبة للاستثمار والسياحة، إضافة على العمل على استقطاب الفعاليات والمناسبات والمعارض الدولية الهامة في المجالات الاقتصادية والرياضية والثقافية وغيرها.

الشق غير المباشر لقوة المدينة الناعمة ينبع من الخصائص التي تمتاز بها من حيث الثقافة والتعليم والتجارة. هذه الخصائص تتضمن أيضاً أموراً مثل ظروف المعيشة وطبائع وخصائص الناس والأنظمة ومؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى المعالم الأثرية والمراكز الثقافية والمتاحف.

خلاصة القول، إن المدن أصبحت مصدراً هاماً من مصادر القوة الناعمة لأي بلد، ويتطلب استثمارها وجود برامج ومبادرات وتنسيق وتكامل لتحقيق أقصى قدر ممكن من الجاذبية والتأثير حول العالم، دون إغفال لدور الإنسان في كل مدينة من حيث بشاشته ورقيه وخلقه وحسن تعامله مع الآخرين فهذه هي المكونات الأهم لـ «روح المدينة».