Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

مع احترامي!!

A A
في قصيدته الشهيرة والساخرة (احترامي للحرامي)، التي صدح بها الأمير عبدالرحمن بن مساعد في عام 2000، حوّل تكراره مفردة «الاحترام» إلى صدى يُغلِّف كل الأفعال المُشينة التي تسردها القصيدة عن السرقة كعلامة فساد صارخة، وكان هذا التغليف بمثابة تغطية لإخفاء الجريمة وتلبيسها بلبوس الاستحسان الظاهري، فحين يُخصّص المجلس الأمامي لـ»صاحب المجد العصامي»، فإنه ينتشي بهذه المكانة الرفيعة التي ما تبوَّأها إلا بالخداع، ولكنه حين ينفش صدره، ويرفع أنفه حتى يكاد يلامس عنان السماء، يداخله الغرور، ويُخيّل إليه أنه نال ما ناله بجهده وذكائه وحنكته، وأنه حتماً يستحق التمتع بما استولى عليه دون وخزة ضمير.

لكن لفظة «الاحترام» في القصيدة وردت متهكِّمة، صاخبة في استهزائها من كل من مات ضميره فنهب واستمرأ النهب على حساب بؤس الآخرين وحرمانهم، بل وعلى حساب الوطن ومصالحه. كثرة تردد مفردة «احترامي» في مقدمة القصيدة، وفي نهايتها، وقبل كل فقرة وفي نهايتها، أفقدها معناها الحقيقي، وأفرغها من دلالاتها المعتادة، فأصبحت خاوية وكأنها مجرد صوت يضج بقهقهة قاتمة.

في عام 2000، كان الحرامي يضحك وهو يغبط نفسه على حدّة ذكائه، يمتلكه الفخر على براعته في الاغتراف من خيرات البلاد، وقدرته على كنزها ورعايتها لتنمو وتنمو، ثم تنمو أكثر، فهو «يسرق بهمة دؤوبة، يكدح ويملأ جيوبه، ما يخاف من العقوبة».

لم يتعجَّب الناس من فعل السرقة ولا من الجرأة في ارتكابه، قَدْر تعجُبهم من النهم الذي لا يهدأ، ومن الرغبة الهادرة في الالتهام لمجرد الالتهام، ومن الاستحواذ على أرقام فلكية من ثروات البلاد وحرمان مواطنيها.

كان ذلك في بداية القرن، لكن 2017 جاءت بما لم يتوقعه الحرامي، ولا من يحترم الحرامي. عاصفة الحزم لم تتوقف عند الأعداء المُعلنين من الخارج، فكل مَن يقف ضد مصالح هذه البلاد هو في خانة العدو، والغدر بها لا يختلف باختلاف الوجوه والأساليب. عاصفة الحزم هي حرب مكتملة الأركان، هي «تدمير فوري» لكل من يُشكِّل خطراً على هذه البلاد، سياسياً أو دينياً أو اقتصادياً أو أخلاقياً أو فكرياً.

في 2017 زالت حتى مظاهر الاحترام الساخر عن «صاحب المجد العصامي»، فوجد نفسه في مواجهة صعبة مع سؤال لا حدود لإجابته: «من أين لك هذا؟»، من أين سيبدأ ليحصر نقاط التراكم الهائل الذي «ابتدأ بسرقةٍ بسيطة، وبعدها اتعدّى مُحيطه»؟، اليوم تعدّى الفساد محيطه، وحانت ساعة الجد، وما عاد لأحد أن يضحك، لا ساخراً ولا منتشيًا!

حين وصلت قصيدة (احترامي للحرامي) إلى مسامع الحرامي في ذلك الحين، لابد أنه عرف نفسه، فالوصف فيها كان دقيقاً، والإشارات واضحة تكاد تنطق بالاسم، لكنه كان في طغيانه يعْمهْ، ويُصدّق أنه كان محترماً في أعين الناس لمجرد أنه جلس «في الصف الأمامي»، وأن الناس فعلاً يُصدّقون أنه «صاحب النفس العفيفة، صاحب اليد النظيفة، جاب هالثروة المخيفة، من معاشه في الوظيفة».

إن من يألف الفساد يفقد القدرة على التمييز بين الشطارة وبين النهب، بين الذكاء وبين التحايل، فالفاسد يضل عن الصراط المستقيم، ظاناً أنه من الذين أنعم الله عليهم، وهو من الضالين. يقول الشاعر الإنجليزي أليكساندر بوب: «الخطيئة وحش ذو مظهر مريع/‏ لابد أن تراه لتكرهه/‏ لكنك إن رأيته طويلًا تألفه، تتحمله، ثم تُشفق عليه، ثم تحتضنه». اليوم ينتهي الاحترام للحرامي وللفساد، «لأكل أموال العباد، للجشع والازدياد، والتحوُّل في البلاد، من عمومي للخصوصي». كيف مرّت تلك القصيدة الساخطة في يومها ذاك، وكأنها نسمة ترفيهية منعشة وهي تصرخ مُنددّة بما نرى نتيجته في يومنا هذا؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store