Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

كلّما مُنحنا الحياة.. متنا قليلًا

A A
خطوة كبيرة تلك التي خطتها الروائية والشاعرة التونسية خيرية بوبطان، بروايتها الجديدة: ابنة الجحيم التي طبعتها في التنوير، في بيروت وتونس ومصر، هذه السنة. تحية كبيرة لها ولدار التنوير التي تعمل بجدية، وفق المقاييس الدولية في حقوق النشر والمتابعة والتحرير. بروايتها الثانية التي لا يمكن أن تكتبها إلا امرأة في عز تحولاتها الجسدية والروحية، تكون خيرية قد ضمنت مكانًا حقيقيًّا في سجّيل الرواية العربية.

لقد تخطت بسرعة مزالق الرواية الأولى «عايش ميت» التي تناولت فيها جزئية معاصرة من تاريخ تونس الحديث، مع ارتدادات كثيرة نحو الماضي، رواية جاءت في وقتها، في عز الغليان التونسي، رواية ابنة الجحيم، تجربة أخرى، قصة امرأة تقطع مسافات غير محدودة داخل فراغ أصبحت جزءًا منه، فترسمه لحظة لحظة، معلمًا معلمًا، الرواية دقيقة في خياراتها الفلسفية، التي تتخفى وراء النص. تضع، لأول مرة، أمام أعيننا المندهشة، فكرة الحياة بشكلها التجريدي الغامض، والعميق. نرى كل شيء بشكل مشهدي في لحظة تكوينه. كابوس قاس لا يشبه الحقيقة بل يتخطاها نحو المبهم واللامنتهي. هل الحياة خطأ؟ هل هي انتحار متكرر بأشكال جديدة ومختلفة؟ ماذا تحمل البطلة، جنينًا للفرح أم قنبلة موقوتة؟ هل هو قدر الأشياء منذ قتال قابيل وهابيل على الجبل الأعلى؟ الأمر الذي يجعل من امتلاك مفاتيح الدخول إلى الرواية أكثر من ضرورة.

ابنة الجحيم رواية تأملية في جذر الحياة وتحولاتها، ونحتاج لذلك إلى قراءة منتبهة تخرج من دائرة القراءة التقليدية التي تراهن فقط على المتعة والقصة، ليس لأن خيرية أرادت أن تصعب من مهمة القارئ، ولكن لأن الحياة نفسها بغموضها وغرابتها تقتضي ذلك،

إذ رسمت خيرية المصائر الإنسانية من لحظة تكونها حتى تلاشيها، أن تمنح الحياة، هذا يعني بالضرورة أن تكون قادرًا على العطاء والحب والفناء أيضًا من أجل هذه الحياة. قد تبدو القصة في معناها المباشر، أو المستوى الأول للقراءة، بسيطة. هي قصة أسماء ابنة فاطمة ويوسف التي قرر الجد الذي يعيش مع أرواح الموتى، تزويجها بلا نقاش، فاضطرت إلى كتم حبها لابن الجيران الذي عزف عن الحياة، واختار المسجد، تعيش كوابيسها في لحظة غشاوة تدفع بها نحو أعماقها، ولم تستيقظ إلا بعد يومين، وحيدة في مواجهة عالم أصم لا لغة له إلا لغة الموت، افتراقها مع يوسف وذهابها للعيش مع خالها حتى موتها يدخلها في مدارات جديدة، الكثير من القصص تمر عبر العمة سالمة التي تحادث الموتى، تحب أسماء وتكره زوجة والدها، تقودها الحياة الكابوسية الشديدة التعقيد إلى مستشفى الأمراض العقلية، حيث تقابل هناك طبيبها النفسي الدكتور أيمن الذي يصاب بها، ويصبح عرضة لنفس كوابيسها التي كانت تراها، الفكرة الجوهرية هي أننا كلما منحنا الحياة، فنحن نموت قليلًا، وكلما ظننا أننا امتلكنا الحياة، اكتشفنا بأن ما يبدو على السطح سهل، يحتاج إلى حالة من التبصر والتعمق. الحياة لها ظاهر وباطن. وكثيرًا ما يكتفي الإنسان بما يلمسه خارجيًّا.

سؤال الرواية الفلسفي والإنساني: كيف تنشأ الحياة منذ لحظتها الجنينية، وسط ظلمة قاسية، حيث العالم يكاد يكون هلامًا بلا شكل واضح وبلا جسم. من هنا، فرواية ابنة الجحيم ليست نصًّا يقرأ على أريكة، هي فعل ثقافي وفلسفي غامض مثل غموض الإنسان نفسه، تعترضنا الأسئلة الوجودية الأكثر إحراجًا، لهذا تحتاج ابنة الجحيم منّا إلى بعض التوقف والتأمل لمحاولة فهم عالم شديد التركيب والغموض. حتى العناوين المنشأة في الروية على العدم، اختارتها الكاتبة، وفق نفس المنطق بذكاء، منذ العدم الأول ومرحلة بين بين التي تتكون فيها الأشياء دون أن تنتظم، ودون أن يتحكم فيها مخلوق، ومن خلال عمليات السرد الذكي، تتضح المراحل الكونية الثلاث: انفصال الشيء عن مداره العام قبل أن يكوّن مداره الخاص الذي تنشأ من نطفته الأولى خلية الكون، بذرة الحياة. ثم مرحلة بدء التكوين حيث تتجلى الأشياء بأشكالها. قبل أن تبدأ المرحلة الثالثة، الرحلة الأثيرية. يمكنني أن أسمي ابنة الجحيم، رواية الحيرة والأسئلة؛ لأنها تترك قارئها معلقًا في فراغ مهول، كلما ظننا أننا فهمناه، زاد ابتعادًا وتشابكًا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store