Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التعلم بالفوضى

واليوم تجتاح الميدانَ التعليميَّ ما يُسمى بـ (منظومة الأداء الإشرافي والمدرسي) وهي حزمة أساليب وإجراءات، ظاهرها التطوير وواقعها إشغالٌ لقائد المدرسة ومعلميها وطلابها، ومخرجاتها نتائجُ غير صادقة

A A
منتصف التسعينيات الميلادية كان لمعالي وزير المعارف -وقتَها- الدكتور محمد الرشيد -رحمه الله- في بداية تسنُّمه الوزارة جولات متعددة على المحافظات؛ بهدف الاطلاع على سير العملية التعليمية في مدارسها. وقتها كان معاليه قد بعث مجلة (المعرفة) التابعة للوزارة من مرقدها، وكانت افتتاحياتها تأتي ممهورة باسمه، وفي إحدى الافتتاحيات ذكر معاليه موقفًا لمعلم من معلمِي الصف الأول الابتدائي، فقد وجد طلابه يحيطون به، فمنهم من يمتطي ظهره، ومنهم من يشد شعره ومنهم من يتربع على طاولته.. إلخ. معاليه أورد هذا الموقف ليدلل على أن المعلم ينبغي أن يكون لطيفًا مع طلابه، باعثًا فيهم روح المداعبة، مشعرًا إياهم بقربه منهم، وأراد كذلك التأكيد على أهمية أن يكون الطالب مشاركًا (بقَدْر) لا متلقيًا فقط، ولم يكن في حسبانه أن سرده لتلك الحادثة سيشكِّل منعطفًا تاريخيًّا في سير العملية التعليمية، ومجالاً خصبًا لبروز وتعملُق مصطلح (التربية) حتى تجاوز مفهومَه الطبيعي، حتى إن الوزارة فُتِنت به فأصبح أحد حدِّي اسمها (التربية والتعليم) قبل أن تقتنع مؤخرًا بأن المدرسة ميدان للتعليم أولاً فاكتفتْ بمسمى (وزارة التعليم). ما حدث بعد ذلك أن الباب فُتح على مصراعيه لتتحول المدارس إلى حقل تجارب للنظريات التربوية وطرائق التدريس وإستراتيجياته، فمن التعلم بالترفيه إلى التعاوني إلى الإلكتروني، مرورًا بالتقويم المستمر إلى المُدخل التكاملي في تعلم اللغة العربية وتعليمها، وليس انتهاء بالتعلم النَّشِط، وكل ذلك تحت مبرر التطوير والمسايرة. واليوم تجتاح الميدانَ التعليميَّ ما يُسمى بـ (منظومة الأداء الإشرافي والمدرسي) وهي حزمة أساليب وإجراءات، ظاهرها التطوير وواقعها إشغالٌ لقائد المدرسة ومعلميها وطلابها، ومخرجاتها نتائجُ غير صادقة؛ كون تطبيق معايير قياس الأداء ستتفاوت من مشرف لآخر ومن قائد لقائد. في ثنايا تلك المنظومة جاءت إستراتيجية (التعلم النشط) ومع أن هذه الإستراتيجية وغيرها لها بعض الإيجابيات إلا أن الواقع يشهد بأن سلبياتها تفوق إيجابياتها؛ يكفي أن البيئة الصفية تتحول معها إلى فوضى -مهما جاهد المعلم لضبطها- وأن وقت الحصة ينفد والطلاب في مداولات ومشاورات (غالبها عبثية) حول مسألة واحدة. نحن نغالط أنفسنا حينما نطالب بمخرجات (ذات قيمة) في ظل التدافع بين كمِّ هذه الإستراتيجيات والنظريات الحديثة بداعي التطوير في وقت لا تزال بعض مدارس اليابان تستخدم الطباشير. أمر مؤلم أن يأتي المشرفُ المدرسةَ ولم يعد يعنيه مستوى المعلم وقدرته وتمكُّنه وإنما مدى تنفيذه لبنود (المنظومة) وتسلحه بكمٍّ ورقي من الشواهد، ولم يعد يعنيه تحصيل الطلاب بقدر ما تعنيه تشكيلاتهم داخل الفصل وملفات إنجازاتهم. لنعترف أننا اتجهنا بالعملية التعليمية لحالة فقدان توازن -ولن أزيد- وحيَّدنا بطريقة أو بأخرى دور المعلم، ولم يعد يُضيرنا مَلْءُ الطلابِ الفصلَ فوضى مع انحدار تحصيلهم الدراسي مادام المبرر هو الأخذ بالإستراتيجيات والنظريات الحديثة.. فهل نتدارك؟
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store