Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

طقوس العزاء كمتغير مجتمعي

حين كان الموت مصيبة كبرى تزلزل الكيان الإنساني إلى حدٍّ قد يدفع إلى فقدان الاتزان العقلي، كان الحزن ثقيلاً إلى درجة تكبل الحياة، والحداد قاسياً وشديداً يطول مداه

A A
في زمن ماضٍ قريب كانت العادات والتقاليد ترسخُ كالجبال، وقد تهبّ عليها الرياح بين حين وآخر، فتُحرّك بعض حجارتها على مدى متباعد من الوقت. منذ منتصف القرن الماضي والحياة المعاصرة في حالة عجيبة من التبدل المتسارع، فما كان عرفاً جرى التنازل عنه بسهولة، وإحلاله بالطارئ الذي لا يكاد يُصبح عادةً حتى تتم إزاحته لتقبـُّل طارئ آخر. لو توقفنا أمام طقوس العزاء في مدينة جدة بالتحديد، ستدهشنا كمية المتغيرات ووتيرة حلولها واستبدالها في فترة وجيزة.

حين كان الموت مصيبة كبرى تزلزل الكيان الإنساني إلى حدٍّ قد يدفع إلى فقدان الاتزان العقلي، كان الحزن ثقيلاً إلى درجة تكبل الحياة، والحداد قاسياً وشديداً يطول مداه

. كانت بيوت العزاء تظل مفتوحة من الصباح إلى المساء ثلاثة أيام تتخللها وجبتا الغداء والعشاء، ويمكث فيها الأقارب والجيران مع أهل الميت مساندين ومشاركين الحزن القاتل واللقمة التي تُقيم الأوْد. ويتكرر العزاء في أحد أيام الأسبوع حتى «العشرين»، ويتم الاستقبال مرة أخرى في اليوم «الأربعين»، وكذلك في «الحول»، أي بعد عام من الوفاة.

بعد ذلك تقلصت الوليمة إلى العشاء فقط، والغداء للمقربين جداً من الأهل، ثم العشاء فقط، ثم اختفى الأربعين والحول، وبقيت الأيام الثلاثة، وإن كان هناك من يقيم العزاء ليوم واحد فقط ويُسْمع الناس أنه «أول عن آخر». وظل الطعام جزءاً أساسيّاً من طقوس العزاء، كما ظل الاختيار مفتوحاً لإلغائه تماماً، أو الالتزام بأنواع الأرز التقليدية، أو بتقديم بوفيه كامل من الأطايب والحلويات.

كان اللون الأسود هو لباس النساء خلال العزاء، ويظل هو لباسهن ما دمن في حالة «لزم»، أي حداد قد يستمر عاماً كاملاً، وقد يتم «فك اللّـزم» على مراحل خلال العام بتدرج السواد إلى درجات أقل قتامة، دون الوصول إلى ألوان مبهجة كالأحمر. في أوقات تالية، صار الأبيض هو لباس أهل الميت، وارتدت المُعزّيات اللون الأسود، ثم اكتفين بالعباءات السوداء، والآن مع توفر العباءات الملونة صرن يرتدين الألوان المختلفة، إضافة إلى العباءات المطرّزة والمقصّبة التي لا تختلف عن تلك التي يرتدينها في السهرات، كما أنهن أظهرن حرصاً على حمل حقائب ماركات متلائمة مع الأحذية ذات الكعب العالي، وقد كن يخلعن الأحذية عند الباب قديماً. وقد خالفت النساء- تدريجياً- السائد من العادات التي كانت تمنع لبس الجواهر، فأصبحنا نرى المعزّيات، ثم النساء في صف العزاء مُزيّنات بالخواتم الذهبية والساعات الفاخرة والأساور المرصعة بالألماس.

حين كان للموت هيبة، كانت النساء يدخلن إلى دار حلّـت عليها مصيبة الموت الكبرى وهن مرتبكات، وقلوبهن مرتجفة من هول الموقف المريع، يؤدين واجب العزاء ويجلسن صامتات قدر الإمكان، وقد يستمعن للقرآن الكريم وهن خاشعات، وقد يجلسن إلى جانب المفجوعات لمواساتهن في فقيدهن وهن متعاطفات ومقدرات لحزنهن. في مرحلة لاحقة تم التخلي عن قراءة القرآن لأن الحاضرات لم يكن في حالة إصغاء، وحل الكلام همهمة محل الهمس، ثم ارتفعت الأصوات، ثم تعالت الضحكات غير عابئة بالموقف المهيب.

في زمن الصحوة بدأت ظاهرة الداعية التي نجحت حتى اليوم في كبح جماح ضجيج الحاضرات المُستنكَر، وهي قد وجدت فيهن جمهوراً جاهزاً لتلقي أي رسالة دينية، سواء زرعت الرعب من أهوال عذاب القبر والشجاع الأقرع، أو انتحبت بشجنٍ وهي تصفُ وحدة الفقيد في قبره، فتنهار النساء باكيات، وتنتشي هي بنجاحها في التأثير.

كل هذه المُستجدّات تتغير بتسارع مستمر، وقد تُستعاد العادات القديمة ثم تُهمل، وقد تطرأ أخرى جديدة ثم تُهجر، وقد تُمارس جميعها جنباً إلى جنب. هذه هي طبيعة حياتنا المعاصرة: تغيرٌ مُطّرد يقاوم الرسوخ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store