Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

الحالة المطرية الجداوية

لا يخاف الانسان أكثر ما يخاف إلا من السر المخبوء، من المجهول اللامعقول. وهذه الضبابية التي تزداد كثافة عاماً بعد عام تسببت في إصابة الجداويين بما يمكننا وصفه بـ"متلازمة الحالة المطرية"، وهي حالة من الذعر اليائس

A A
بما أن تكرار أي ظاهرة هو دليل دامغ على أنها حقيقة، فإن أزمة مدينة جدة مع المطر هي حقيقة لا جدال فيها. ويمكن للناس أن يرفعوا أصواتهم وشكاويهم، ويمكن لهم أن يكتبوا في الصحف، وأن يسجلوا مقاطع صوتية وتصويرية توضح الأوضاع البائسة لشوارعهم ومنازلهم بعد كل هطول، لكن لا شيء يثبت هذه الحقيقة ويؤكد على عمقها وأبعادها إلا تصريحات المسؤولين أنفسهم.

ليس هناك مسؤول واحد قال لنا على مدى عشرات السنين من المعاناة مع المطر بأننا نبالغ، أو نتوهّم. على العكس تماماً، فجميع من تحملوا مسؤولية هذا الأمر أقروا واعترفوا بأن هناك مشكلة، وتقصير، وضرورة حتمية لإيجاد حلول باترة. توالت التعهدات والتهديدات، والخطط والمشاريع، والميزانيات والتصريحات، ولكن لم يتغيّر شيء من أزمة جدة مع تصريف مياه الأمطار سوى أنها تحوّلت إلى معضلة مستعصية على كل الحلول.

هنالك غموض خانق يكتنف هذه المعضلة، فما دام الضرر قائما عاما بعد عام، وما دام المسؤول لا يُنكر الضرر ولا يتنصّل من مسؤوليته تجاهه، وهو لا يدّعي أن الحل غير ضروري، ولا يعتذر عن عدم إمكانية تنفيذه، بل إنه يخطط له ويرصد المليارات، فما الذي يُعيق التحرك الجاد؟ ما طبيعة هذا الحائط الجبار الذي يستحيل اختراقه أو تسلقه؟.

لا يخاف الانسان أكثر ما يخاف إلا من السر المخبوء، من المجهول اللامعقول. وهذه الضبابية التي تزداد كثافة عاماً بعد عام تسببت في إصابة الجداويين بما يمكننا وصفه بـ»متلازمة الحالة المطرية»، وهي حالة من الذعر اليائس،

واليأس المذعور تم اكتسابها على مر السنين، ثم أصبحت متوارثة في جينات مواليد مدينة جدة. ولا شك أن أهل جدة ينتابهم الرعب من أول كلمة تصلهم من هيئة الأرصاد الجوية عن قرب وصول المطر، فهي لا تصلهم إلا في صيغة إنذارات وتنبيهات. وفي الانتظار يستنجد الجداويون برب العباد مستعطفين لطفه بسلسلة من التضرعات، وما أن يزمجر الرعد معلناً قدومه حتى تجمد العروق؛ تحسباً للخراب الذي ستجلبه زخات المطر الثقيلة.

كل التصرفات التي تسبق المطر، والتي تزامنه، والتي تليه- تثبت أن الناس في حالة شديدة من التشنج والارتباك، ورغم كل التحذيرات تجد أن خروجهم إلى الشوارع كثيفاً، وأن من يطالبون بالإجازات لا يتورعون عن مغادرة منازلهم ساعة الانهمار الأقصى، خصوصاً في زمننا هذا الذي يشعر فيه كل تويتري/ة وكل سنابي/ة أن مهمته كمراسل تستدعي أن يخاطر ليوافي جمهوره من المتابعين بتغطياته المتفردة للحدث. كل التقاطة يصحبها السخط على مسؤولٍ ما، كل سقف يخر يتبعه لوم لفاسد، كل حادث يستدعي سيلاً من الشتائم على من كان السبب.

العقل يقول عودوا إلى منازلكم، وتأملوا قدرة الخالق واحنوا رؤوسكم لآياته العظمى، ثم اتركوا لأصحاب الشأن الذين تأهبوا لمحنة المطر مساحة للعمل. العقل يقول المطر الشديد والخراب الذي يجلبه ليس خاصية جداوية، فهذا هو حال الطبيعة حين تكون ضارية وهي تُغرق مدناً في بلدان متحضرة، وما إعصار هارفي في ولاية تكساس عنا ببعيد. العقل يقول لقد تم التحذير، والدفاع المدني جاهز، وجميع المرافق الحيوية التي تتعامل مع الأزمات والكوارث تقوم بواجبها في المواقع المطلوبة، فلنهدأ.

العقل يقول: إن المطر غزير ومنسوب المياه مرتفع جدّاً في وقت ذروة الانهمار، فمن الطبيعي أن تفيض الشوارع، ومن الطبيعي أن يغيض الماء لاحقاً، فلا داعي لتذكيرنا بما رأيتم في أوروبا وما عايشتم في أمريكا، لكنه الخوف من المجهول القاتم! هي «متلازمة الحالة المطرية الجداوية» التي سبّبها التكتم على سر كبير مرعب، سر الحل المفقود الذي حيّر العقول!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store