Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

السلم الثقافي الظالم.. بين دورميسون وجوني هالداي

عبدالحليم حافظ كانت حدثًا وطنيًا كبيرًا.. ولم تكن جنازة أم كلثوم أقل من جنازة عبدالناصر أو هواري بومدين، مشى وراءها الملايين، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لطه حسين، أو نجيب محفوظ، أو حامد أبوزيد، أو درويش، وقبلهم مي زيادة رائدة الصالونات الثقافية وتحرير المرأة والمنتصرة للحداثة، التي مشى في جنازتها ثلاثة أشخاص من جيش أصدقائها من الكتاب المعروفين

A A
في الفترات القديمة وحتى القريبة، كانت وفاة فيلسوف أو مفكر، تهز الدنيا ويتسابق الناس لتوديع الشخص الذي ملأ الدنيا بفكره ونوره. طبعا لكل قيمته. كانت الحشود تخرج مجموعات. لا أحد قادر على منعها أو حصرها. اليوم تغير كل شيء، وأصبح لزماننا نماذجه ومقاييسه في تراتبية القيمة والأولويات. وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي هي المحدد في النهاية، وهي من يصنع القيمة ويحدد سلم الأفضليات. حدثان ثقافيان حزينان مسّا هذا الأسبوع، فرنسا بعنف شديد: وفاة علمين استثنائيين في الثقافة الفرنسية. الكاتب والمفكر، جون دورميسون وعضو الأكاديمية الفرنسية. الذي ساهم في تبسيط العلاقات مع اللغة والنحو الفرنسيين، ولم يكن متشددا. بل إن ثورتها تكمن في جعلها في متناول الجميع، وليس في تسطيحها. وهو محبوب جدا عند الفرنسيين، بالخصوص النخب الثقافية التجديدية. الحدث الثاني، وفاة الفنان والمغني المعروف، جوني هاليداي، الذي اخترق قرنا وسحب وراءه أجيالا كثيرة. غفر له الفرنسيون شعبا ومؤسسات، حتى ردة فعله من الضرائب، ومغادرته فرنسا محتجا، واستقراره في سويسرا. فرنسا تجد حلولا لكل شيء إلا الضرائب، فهذا تترتب عليه عقوبات ثقيلة تصل حدّ السجن، مهما كانت درجته وثقافته وموقعه السياسي والثقافي. الكثير من الوزراء سُجنوا لأنهم أخفوا مداخلهم المالية. أكثر من نصف سنة من الإبداع سمحت لجوني أن يكون ليس فقط قريبا من جمهوره متماهيا معه في أحزانه وحروفه وأفراحه. وربما كانت يا مريم واحدة من أجمل ما ترك لجهوره الوفي. الأهم في كل هذا، هو أن وفاته محت كل الأخبار الأخرى الخطيرة، بما في ذلك قرار ترامب الخطير الذي ضرب عرض الحائط كل النقاشات حول القضية الفلسطينية باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. زيارة ماكرون للجزائر وقطر، لم يكن وضعها أفضل، فقد تحولت إلى خبر فرعي صغير وهامشي، على الرغم من قيمة الزيارتين على المستوى الاقتصادي. المؤلم في المشهد هو وفاة العالم الكبير دورميسون. يحتاج أمر مثل هذا إلى تفكير كبير وتأمل جاد. ما منبع سلم الأولويات بالنسبة لدولة متقدمة مثل فرنسا. هذا نفهمه جيدا بالنسبة للبلدان المتخلفة التي لا قيمة فيها للثقافة ولكن للقيم الشعبوية الطارئة. ككرة القدم. يكفي أن يفوز فريق بلا شيء لترتفع الحناجر مهللة بالفتح المبين. هذا مفهوم. لأن الثقافة المهيمنة في هذه البلدان التي تعيش على هامش العصر وليس فيه، هي ثقافة السهولة والتبهيم. ثم أن الأمية كبيرة وحجمها وكتلتها ثقيلة. لكن في فرنسا شيء آخر، أو يفترض ذلك. وكان يفترض أن يجد العلم مكانته بالخصوص مع دورميسون. ثلاثة أيام لا حدث يعلو على جوني هاليداي. وهذا مفهوم ولكن ليس لحد أن تتحول وفاة جوني إلى لا حدث. قبل أن يعلن رسميا عن تنظيم جنازة وطنية لجوني ورسمية تمر عبر الشونزليزي. وكلما زادت المغالاة في الاهتمام بجوني هاليداي، زاد دورميسون توغلا في النسيان وكأن هناك سلما

ثقافيا واضحا، يتحدد من خلاله الاهتمام بهذا أو ذاك.

لنا شبيه لذلك في ثقافتنا العربية.. عبدالحليم حافظ كانت جنازته حدثا وطنيا كبيرا.. ولم تكن جنازة أم كلثوم أقل من جنازة عبدالناصر أو هواري بومدين، مشى وراءها الملايين، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لطه حسين، أو نجيب محفوظ، أو حامد أبوزيد، أو درويش، وقبلهم مي زيادة رائدة الصالونات الثقافية وتحرير المرأة والمنتصرة للحداثة، التي مشى في جنازتها ثلاثة أشخاص من جيش أصدقائها من الكتاب المعروفين. الظاهرة إذن عامة، وليست قسرا على الدول المتخلفة السماعية. الفرق الوحيد أنه في مجتمع المؤسسات يمكن تدارك كل شيء وتصحيح المسار. عودة الرئيس من الجزائر وقطر غيرت كل شيء. بدون أن يؤثر ذلك مطلقا على جنازة جوني الوطنية. فقد نُظِّم في المعطوبين les invalides أحد أهم الأماكن الرمزية في فرنسا. وألقى الرئيس كلمة من أنبل وأبلغ ما يمكن أن يُقال أمام قامة ثقافية إنسانية عالية. صبيحة الجمعة كانت حقيقةً صبيحة جون دورميسون. ثم انحنى على تابوته. هكذا الكبار الذين يحبون أوطانهم ومثقفيهم ويحولونهم إلى قيمة وطنية وإنسانية أو كما سماه ماكرون: العبقرية الوطنية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store