Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

اختزال الخطاب والقراءة المؤدلجة!

لعل المؤسف في الأمر أن مَن يقوم بممارسة أسلوب الاختزال القصدي هو الفئة التي دائمًا ما تدَّعي النخبوية وتطالب بالموضوعية والإنصاف، وتشدد على اللُّحمة الوطنية، ولا غرابةَ فهذه الازدواجية منها تجاه الخطاب لها منطلقاتها الأيديولوجية

A A
قبل أن يُلقي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - خطابه السنوي في مجلس الشورى - كنت أقول: هل ستتكرر عمليات الاختزال والقراءات المؤدلَجة - من قِبَل بعض المُتلقِّين - للخطابات الملكية وخطابات كبار المسؤولين، أم أننا أصبحنا نعيش مرحلةً مغايرةً لسابقاتها؛ بحيث نبتعد عن الاختزال وتكون القراءات أكثر موضوعية ومصداقية؟ لم يكد ينتهي الملك سلمان من قراءة آخر حرف في خطابه، حتى تلقفته وسائل الإعلام والمحللون والمغردون، كل يغرف منه بحسب توجهاته وخلفياته ومقاصده، وكل يقرؤه ويفهمه من الزاوية التي تُلائمه، مع أن الخطاب جاء غايةً في الوضوح والبيان. لا يمكنني هنا الإحاطة بمضامين الخطاب كلها، لكنني سأُركِّز على جملة وردت في ثناياه وشهدت - دون غيرها - اختزالًا مخلًّا وقراءات مؤدلجة من قِبَل البعض. يقول الملك في تلك الجملة: «ورسالتنا للجميع أنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالًا، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلةً لنشر الانحلال واستغلال يسر الدِّين لتحقيق أهدافه». الجملة بلغت من الشفافية والوضوح ما يجعلها لا تقبل أي اختزال لمفرداتها أو أي تأويل مخاتل لمضامينها، ومع ذلك رأينا تباينًا حادًّا في تلقيها وقراءتها. ثم إن حدي الجملة (التطرف والانحلال) لا يمكن لموضوعيٍّ منصفٍ أن يجهلهما أو يكتفي بأحدهما دون الآخر، وإلا فليس ثمَّةَ من فارِق بينه وبين من يقرأ «فويلٌ للمصلِّين..» ثم لا يُكمل. الأمر الطبيعي أن القارئ الموضوعي المنصف سيأخذ بالحدين ولن يُغفل أحدهما، ومع هذا تناول البعضُ الخطابَ - عبر تغريداتهم وتعليقاتهم وكتاباتهم - من الزاوية التي يميلون إليها، وكانت الغالبية العظمى تركز على حد التطرف وتغفل حد الانحلال في قراءة اختزالية مؤدلَجة لمضامين الجملة، والبعض التزم صمت القبور عندما وجد الخطاب متوازنًا وليس أُحاديَّ الاتجاه وهو الذي يعلو صوته دائمًا مع كل خطاب، والبعض اكتفى بتدوير التغريدات التي ركَّزت على حدِّ التطرف.
لم تقتصر عملية الاختزال على الأفراد، بل تجاوزت ذلك للعديد من وسائل الإعلام ومؤسساته بأنواعها، فرأينا أكثرها تُبرز حد التطرف دون سواه، في اختزال يخل برسالتها ويفقدها مصداقيتها. قضية اختزال الخطاب ليست وليدة اليوم؛ فقد شهدنا قبل نحو (10) سنوات اختزالًا مماثلًا حينما ألقى الأمير خالد الفيصل محاضرته في جامعة الملك عبدالعزيز عن منهج الاعتدال السعودي، يومها أتى سموه على التيارين الأرفع صوتًا في تلك الفترة وهما (التكفيريون والتغريبيون)، ومع أن خطاب سموه لم يتهاون مع التيارين كليهما إلا أننا رأينا كيف أُريد له أن يكون - تحت شهوة الانحياز والاختزال وعدم الموضوعية - عن تيار التكفيريين وحدهم، وكانت آخر الاختزالات والانحيازات هي استحبابُ البعضِ (المرونةَ والمداهنةَ) مع الفساد. لعل المؤسف في الأمر أن من يقوم بممارسة أسلوب الاختزال القصدي هو الفئة التي دائمًا ما تدَّعي النخبوية، وتطالب بالموضوعية والإنصاف، وتشدد على اللُّحمة الوطنية، ولا غرابة فهذه الازدواجية منها تجاه الخطاب؛ لها منطلقاتها الأيديولوجية. ومع أننا نعيش مرحلة التحولات الإيجابية إلا أننا نجد من لا يزال يعيش بعقلية الصراع والغلبة، أما المُضحك فهو جهل المختزِلِين بالمتطلبات الحساسة للمرحلة، وبالغايات المثالية للرؤية، وبالسُّلطة الفاعلة لوسائل التواصل الحديثة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store