Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

زماننا وزمانهم

الأحلام في مرحلة الشباب تتحول إلى أطماع واستحواذ، لكن في مراحل عمرية متقدمة، تصبح الفراشات الملونة الجميلة طيوراً وصقورًا وغربانًا، وقتها فقط تُدرك أن ما خسرته من لحظات جميلة وصحبة ومحبة وعطاء لن يكون بإمكانك تعويضه، وأنه ليس بإمكانك الرجوع خطوة، فالعمر قاطرة تسير إلى الأمام

A A
الماضي يُمثِّل لكل جيل، مراحل وعي وخبرات تتحوَّل مع الزمن إلى قناعات وإلى تهذيب كثير من الصفات الإنسانية التي لا ينتبه لرعونتها وطغيانها الإنسان، إلا بعد أن يمر بكل تلك المراحل العمرية، ويصل إلى مرحلة المسافر الذي يقف في المحطة، ينتظر القطار الذي يقله إلى المحطة الأخيرة، فيقف متفرجًا يرى كل شيء يتحرك حوله، وهو يرقب ويسخر وينتقد ويترحم على زمانه، الذي مضى سريعًا، دون أن يُحقِّقَ أحلامه التي يراها تتساقط بين أرجل المسافرين في كل اتجاه.

كل التجارب التي تخوضها في غمار الحياة، تمتلك مفاتيح أبواب فهمك (الحياة) بعمق، تصبح الأحلام التي كانت فراشات تتطاير أمامك، وأنت تركض خلفها، وتمد يديك لتمسكها حلمًا واحدًا فقط، لكنك تسقط مرة تصاب بكدمات خفيفة في إيمانك بقدراتك، ومرة تكسر ثقتك في إمكاناتك، وأُخرى تتحطَّم عظام رغباتك، وتظن أنك عاجز عن ترميم حطامك، وتجبير كسورك، أو علاج كدمات أحلامك، لكن بمرور الزمن وانتقالك من طور لطور في رحلة العمر، تكتشف أن الفراشات التي كنت تركض خلفها لا تستحق كل ذلك الركض، وأن الإصابات المتتالية تعلمت منها الكثير، إذا كانت كل (دقة) بتعليمة، وأنك أصبحت قويًّا بإيمانك، وراضيًا بما حصدته، وقانعًا بالقليل من كل شيء، رحلة طويلة يسير فيها وإليها كل البشر.

الأحلام في مرحلة الشباب تتحول إلى أطماع واستحواذ، لكن في مراحل عمرية متقدمة، تصبح الفراشات الملونة الجميلة طيوراً وصقورًا وغربانًا، وقتها فقط تُدرك أن ما خسرته من لحظات جميلة وصحبة ومحبة وعطاء لن يكون بإمكانك تعويضه، وأنه ليس بإمكانك الرجوع خطوة، فالعمر قاطرة تسير إلى الأمام، ولا ترجع إلى الخلف.

في عصرنا هذا، ارتفعت مهارات الأجيال، وأصبح بإمكان الطفل أن يقود الشيخ، يقوده بمهارة استخدامه ليس فقط للأجهزة الذكية، وكيفية التعامل مع وسائل التواصل والتقنية الحديثة، بل يمكنه التحكم في أدواتك وأجهزتك وممتلكاتك، لم يعد اليوم في حياة الإنسان يُمثِّل عامًا من الخبرة والمعرفة، بل كل يوم تكتشف أن العالم يتحرك حولك بسرعة وأنت مكانك سر.

لا أخفي سرًّا أني أتعامل بحذر مع الأجهزة الذكية، وقنوات التواصل الاجتماعي، ولا أنكر أن براعة الأطفال من حولي في استخدامها يُحرِّك داخلي هذه المقولة: «أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة»، فتحفزني لتعلُّم استخدام تلك الأجهزة اعتمادًا على التجربة والفشل، وتكرار التجربة حتى أصلَ لمعرفة ما أظن أنه منتهى الأمل، فأكتشف أني لا زلتُ أفك الخط في هذا العالم الذي يتقنه الطفل، ولا زلت في مرحلة الحبو.

مثلا ظننت أني أُجيد التعامل مع جهاز الآيفون، وأن الرقم السري يحفظه من عبث الأحفاد، لكني فوجئت بحفيدتي تفتحه بالبصمة، نظرت إليها بدهشة، لم تعتذر، بل أكدت لي أني حتى لو غيّرت الرقم السري تظل بصمتها ثابتة وقادرة على فتح هاتفي، غير عابئة بالرقم السري.

فكرتُ هل لا زالت مقولة: «أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة»، طريقة لاستحواذ الكبار على العلم والمعرفة في زمانهم، وأزمنة تغيّرت معطياتها ولم يعد لهم فيها بصمة إصبع، كأن ماضيهم خُط على صفحة مياه البحر تبتلعه الموجة إثر الموجة، أو على وجه رمال صحراء تمحوه الرياح وتبدد ذراته في الهواء، أم أن التقنية مختلفة عن الوعي والخبرة والتجربة، التي تصل بالإنسان إلى الحكمة، والحكم على الأشياء بمنظار العقل لا العاطفة؟

ربما هذا هو صراع الأجيال الأزلي الأبدي، فلا مجال لتغيير مساره، أو الخوض لوقف تدفقه وتجدده من جيلٍ لجيل، أو حسب مقولة «سقراط»: «لا تُكْرِهوا أولادكم على آثاركم، فزمانهم غير زمانكم».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store