Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

شامبو

No Image

A A
نظر إلى أحمد يتفرس في تعابير وجهه، جلس يعصر الوقت ليستخرج بعض الحديث منه، استمر بالتطلع به في جدية ممزوجة بيأس وكأنه ينتظر بوحًا أو اعترافًا ما، ثم جلس على الكرسي المقابل له، وحدق فيه لبرهة أخرى لعله يتكلم، فكر في داخله بصمت: لا فائدة! سأنهي هذا الأمر حالاً.

تكلم وقال: أحمد لا أدري ما المشكلة! صورة الدم، الفحوصات وكل شيء سليم، أكشف عليك منذ سنتين وأحتار كل يوم أكثر في سبب تساقط الشعر الذي تعاني منه، جربنا كل الوسائل الممكنة للعلاج، ولا فائدة تذكر، آسف أنصحك بمراجعة طبيب آخر لعله يستطيع مساعدتك.

ينسحب بهدوء دون اعتراض، لم يثر، لم يصّر، ولم يبدِ أي ردة فعل، يتناول نتائج الفحوصات وينسحب إلى السيارة باستعارة خيبة لا تصلح لموقفه، يتعدل في موضعه وهو جالس أمام مقود سيارته، لكنه يتواجد بعيدًا عن نفسه في نوبة صراع مع الماضي، تتحلق فوق رأسه الأصلع عصافير وجع تنقر ذاكرته، تتمسك بهيجان وشراسة فوق جمجمة وهمه، تنهش بمخالبها ذكرى صغيرة مخبأة قريبة منه، يرفع يديه ويشيح بها بعنف، يحرك رأسه لتتطاير بعيدًا عنه. يفتح زجاج النافذة، يرى كومة أطفال يلتفتون ويلفتون النظر، يتذكر نفسه بهم، كان مثلهم، بملابس رثة تشبه رثتهم، بشعر كثيف كش عصي على المشط، كان بوجه يشبههم، وجه البؤس وكم هائل من العوز والفقر، أكمل الطريق حاول أن ينساهم، يخرجهم من عمق الجرح الغائر لديه، المعابر الأكثر مرورًا في شرايين العمر.

مشى بالسيارة قليلاً، وقف أمام عمارة فارهة يمتلكها، ذات حديقة مليئة بالورد، مصفوفة بعناية، مقسمة على ألوانها وأصنافها المختلفة، نظر إلى البستاني وهو يعمل بجهد، تأكد من سير العمل المنظم، الحارس والبستاني كلاهما مجتهدان ومهندمان.

بعدها رجع إلى شقته حاملاً حقيبة سوداء مليئة بورق وتقارير طبية، رمى بالحقيبة على

الصوفا، نظر إلى فخامة شقته، تأكد من جمالها وتنظيم المكان، فجأة دخل حمامه المميز والمنسق، كما رتبه لنفسه بذوق خاص، ثمة مرآة كبيرة وطويلة معلقة على الحائط ليشاهد انعكاس ثرائه، فلا يحس بغربته في رفاهية ما توقع أن يعيشها يومًا، تجرد من ملابسه، ومرة أخرى وبدون وعي خارج عن السيطرة، إلا من سيطرة هوسه، يسترق نظرة قلقة ومرتبكة إلى الرفوف، هناك عاليًا تصطف أنواع مختلفة من الشامبوهات بعناية وإغراء، يا إلهي إنه لا يستطيع التخلص من هذه الرغبة!

تمتد يده لفتح الماء بحركة لا إرادية، يسكب نصف قارورة شامبو على شعره الذي يحتضر أكثر فأكثر، يكرر هذه الحركة مرتين كل يوم لمدة لا تقل عن ساعة، وكأن لا جزء في جسده يستحق التنظيف مثل شعره، يتذكر طفولته كم كانت يتيمة، بائسة!

كان ينتظر كل يوم جمعة بفرح وترقب ليغسل شعره ويتنظف كي يذهب إلى المسجد، لكنه ما يلبث إلا أن يتحمل عقاب والدته وتوبيخها إذا ما فرغت القارورة من الشامبو، فقط ولأنه أصغر إخوته يجب عليه السكوت والتحمل لئلا يتعرض للضرب من إخوته الكبار المسرفين، رحلت والدته الآن وهو رحل عن إخوته، ولكن بقيت كلماتها صدى تترد في داخله آمرة إياه ومحذرة له: اقتصد، اقتصد، اقتصد...

يعاند ذاكرته، يعاند صوت التحذير، يحاول أن ينتقم لنفسه من الشقاء، يكيل الثراء أمام العوز، يفتح قارورة شامبو أخرى ويصب ربعها يتنعم بالإسراف الآن، كم يحب هذا الإحساس البارد المنعش! وها هو مرة أخرى يستمتع برائحة الشامبو وإحساس الفقاعات والرغوة الممزوجة بالشعر المتساقط بين يديه..

(*) سلطنة عمان

دخل على الطبيب الجالس قبالة الباب الذي فتحه بكل حذر وتأنٍ، مترددًا في الدخول، يقبل بخطوة إلى الأمام ويتراجع خطوتين إلى الخلف، ولكنه ما لبث أن دفع الباب وحسم الأمر، توجه إلى كرسي قابع أمام الطبيب مباشرة وجلس مطاطئ الرأس، ثم رفعه ببطء ونظر إليه ببلادة مصطنعة، محاولاً إخفاء شيء ما باستنكار وكأنه لا يعلم، ولكنه بالتأكيد يعلم كل شيء، تناول الطبيب كومة الأوراق من على الطاولة وأصبح يقلب كفيه متعجبًا، وظهرت علامة استفهام كبيرة على وجهه!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store