Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

حين تكون المساواة ظلمًا

حين نقابل هذا الشخص المتفرد بيننا، نجده مُثقلاً بالمهام الصغيرة، مُنهكاً بما يُلقى على عاتقه من أعمال لمجرد أنه يجيدها ويمكن الاعتماد عليه، نابغة لكنه مُعاق بقانون المساواة، مثله مثل غيره، لا تـُميّزه المكانة، ولا المكافآت، ولا تهيئة الجو الذي يساعده على التطور، ولا الوقت الذي يستغله فيما ينفع. والحقيقة أن لا أحد يجرؤ على رفعه عن مستوى غيره بشعرة، وإلا رُفعت في وجهه سيوف (إشمعنى) وخناجر (أنا كمان).

A A
هنالك دائماً استثناءات للقاعدة، فنحن حين نضع القوانين التي تحكمنا، فإننا نعلم أن تطبيقها سيشمل فقط من يقدر على تنفيذها، ونحن إذ نميل إلى الاستثناء من القاعدة فإننا نسير على النهج الإلهي الذي يرفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض والضعيف، ولا يُحمّل النفس إلا ما تطيق. هذه المراعاة لمن هو أقل قدرة من العادي، ما الذي يوازيها في تعاملنا مع من هو أكثر قدرة من العادي؟ هل تشتد مطالبنا حدة من المتميزين فنحملهم أثقالاً أكثر من غيرهم كونهم يتمتعون بطاقات أعلى؟ هل نسمح للقوانين أن تنثني في الاتجاه الآخر تقديراً ودفعاً، أم نصراً على قولبة أصحاب الملكات الخاصة ونقاوم نموهم فوق الطبيعي؟

لو تأملنا، مثلاً، قانون بدء الدراسة المُحدّد بست سنوات لكل الأطفال لوجدنا أنه مُجحف في حق البعض الذين حباهم الله بعقول فذة ويمكنهم ببساطة بدء الدراسة من سن ثلاث أو أربع سنوات، لكنهم مجبرون على التأخر في المراحل الدراسية ليكونوا متساوين مع غيرهم، ويظل هذا هو القيد الذي يمنعهم من تطبيق المراحل الدراسية، ومن البدء مبكراً في الدراسة الجامعية وهم قادرون. هذه الاستثناءات ليست أوهاماً، فقد قابلت طلاباً في الجامعة بأمريكا وهم صغار السن لكنهم نوابغ وقد فتحت أمامهم أبواب التفوق دون عوائق متشددة.

خلال دراستي أيضاً لاحظت كيف تعامل الجامعة أساتذتها المتميزين، وهي تفاخر بأن هذا الأستاذ البارع ذائع الصيت من منسوبيها، فتهيئ له سبل الراحة، وتـُعينَه على تحصيل المزيد من الإنجازات، وتـُتيح لأكبر عدد من طلابها الاستماع له والعمل معه، فتعيّن له مساعدين بدرجة محاضر، وما عليه سوى إلقاء الدرس على عدد كبير من الطلاب مرة في الأسبوع، ليتولوا هم مهام الشرح، والمراجعة، والواجبات، والامتحانات، ورصد الدرجات، فهذه التفاصيل الجانبية تعطل قدرته العلمية الهائلة وتضيع وقته الثمين. أستاذ كهذا راتبه أعلى، ونصابه أقل، وإجازاته أطول، ووظيفته مضمونة حتى نهاية حياته.

ربما كان الوضع في المستشفيات الجامعية مثالاً على تقدير المتميز، فالطبيب الجراح مثلاً، يعمل على رأس فريق من الأطباء تحت التدريب، وحين يجري العمليات فهو يدخل إلى غرفة واسعة بها عدد كبير من المرضى، وقد تولى الأطباء جميع الخطوات الأولية، فينتقل من مريض إلى آخر ليضع هو أصابعه المختصة في المكان الذي يعنيه بينما يقوم كل فريق بباقي الإجراءات، ثم يخرج وهم جميعاً في الداخل ينهون ما بدأوه.

ما الذي نفعله بالموهوب بيننا؟ ولنأخذ في الاعتبار أن التميز ليس حكراً على العلم والتعليم، بل إننا نلمسه في كل مناحي الحياة: هو ذلك اللبيب الذي يفهمها وهي «طايرة»، هو ذلك النشيط الذي يتحرك في كل اتجاه ولا يهدأ حتى ينهي المشروع الذي بين يديه، هو ذلك المُبادر الذي لا ينتظر أن تـُسند إليه مهمة ليعمل، ولا ينتظر شكراً لما عمل، هو ذلك المبتكر الذي لا يكتفي بما هو مطلوب بل يتعداه ويتخطى حدود الواجب، هو ذلك الشغوف الذي يسعى إلى المعرفة وإلى تسليح ذاته بالمعلومات، هو ذلك المُحرّك للرياح التي تـُغيّر وجه المكان.

حين نقابل هذا الشخص المتفرد بيننا، نجده مُثقلاً بالمهام الصغيرة، مُنهكاً بما يُـلقى على عاتقه من أعمال لمجرد أنه يجيدها ويمكن الاعتماد عليه، نابغة لكنه مُعاق بقانون المساواة، مثله مثل غيره، لا تـُميّزه المكانة، ولا المكافآت، ولا تهيئة الجو الذي يساعده على التطور، ولا الوقت الذي يستغله فيما ينفع. والحقيقة أن لا أحد يجرؤ على رفعه عن مستوى غيره بشعرة، وإلا رُفعت في وجهه سيوف (إشمعنى) وخناجر (أنا كمان).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store