Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

نساءٌ في الملعب السعودي (٢ - ٢)

A A
ما من شكٍّ أن حضور المرأة السعودية في ملاعب كرة القدم يشكل نوعًا من المصالحة مع المرأة، ومع الحياة الطبيعية.. ستختلف التأويلات والتفسيرات بهذا الخصوص، كما هو الحال مع كل شأنٍ آخر من شؤون المجتمع. لكن الواضح أن الغالبية العظمى من المجتمع السعودي تتطلع إلى ما يمكن أن يُسمى بجملة مصالحات مع قضايا ومسائل تتعلق بمساحات المَعاش والحياة اليومية، صغيرةً كانت أو كبيرة. ومع الأخذ بعين الاعتبار كل ما هو معروف عن الثقافة السائدة التي كانت تحكم تلك المساحات، بتفاصيلها الاجتماعية والدينية، يمكن القول، بدرجةٍ من الإنصاف المطلوب، أن (الخصومة)، بمعاني المنع والتقييد والمبالغة في استخدام قاعدة سد الذرائع، كانت هي التي تحكم تلك القضايا والمسائل.

مرةً أخرى، نكرر ما قلناه في بداية المقال السابق، من أنه «لا يمكن القول بأنه تم حلُّ كل تحديات التنمية في المملكة، ولم يبقَ شيءٌ لنتحدث عنه سوى دخول المرأة السعودية إلى الملعب لحضور مباراة كرة قدم». لكننا نتجاوز الحديث، بهذه المناسبة عن موضوع المرأة والملاعب بحد ذاته، لندخل في إطارٍ يتعلق بكل قضايا المرأة، التي بات مستحيلًا تجاهل إعادة النظر فيها، إما لأسباب عملية وواقعية، أو حتى من مداخل دينية تُحقق مصالح المجتمعات والأفراد، وتكلمَ عنها العلماء، للعجب، منذ مئات السنين، حين تحدث أحدهم مثلاً (ابن القيم) في وجوب تغيُّر الفتاوى بتغيُّر الزمان والمكان والأحوال والعوائد والمقاصد والنيّات!

وفي حقيقة الأمر، يبدو وضعُنا المهزوز، مع مثل هذه المقارنات في واقعنا الراهن عصيًّا على الفهم، بل يمكن وصفه بأنه بائسٌ ومتناقضٌ ومُسطحٌ وعاجزٌ ومتناقضٌ لأقصى الدرجات.

ففيما يتعلق بقضايا المرأة، بات مرفوضًا خداع الذات بتلك الشعارات التي تقول بأنه لا ضرورة لصياغة، مثل تلك القوانين الخاصة، بدعوى أن وجود الإسلام في حد ذاته في المجتمع، يكفي لضمان حقوق المرأة. فبكل صراحةٍ ووضوح آن أوانهما، منذ زمن، لا يكاد شيءٌ في الممارسات العملية الاجتماعية يُثبت تلك القاعدة من قريبٍ أو بعيد.

ومن المعيب ألا نُدرك نضوج المجتمع إلى درجة ألا يعني فتحُ الباب للمرأة للمشاركة في بناء المجتمع وإعمار الحياة، فقدانها لخصوصيتها وهويتها والتزامها.. وأن حركة المرأة في المجتمع ليست بالضرورة سببًا لشيوع الفساد والرذيلة.. وأن مساهمة المرأة في العمل العام لا يجب أن تكون لزامًا سببًا لتفكك الأسرة وضياعها.

بغض النظر عن أهمية الموضوع والقرار المتعلق به، تبدو مثل هذه القرارات مطلوبةً لأنها تحمل وعيًا شديدًا بضرورة المراجعات.. وبأهمية إعادة النظر فيما كان البعض يحسب أنه مسلّماتٌ نهائية.. وهذه خطوةٌ أساسية لا بد منها على طريق التطوير والتغيير الذي صار خيارًا لا رجعة عنه في المملكة.

لكن مثل هذه القرارات تحمل معها على الدوام أعراضًا جانبية لا مفر منها. كما هو عليه الحال مع العقاقير التي ترمي إلى معالجة الأمراض الخطيرة والحساسة.

فقد ضيّقَ القرار المذكور حلقة الالتزام المطلق بالعرف (الجماعي) الذي كان يصل أحيانًا إلى درجة الحصار الخانق، ووسّع حلقة الخيار (الشخصي) والحرية الفردية.

ثم إنه أوحى بأن الفرد بات أكثر مسؤوليةً عن تصرفاته وخياراته وقراراته. وأنه لم يعد من الممكن إلقاء اللوم والتبعة والمسؤولية على (السائد الجماعي)، من خلال توجيه إصبع الاتهام إلى السلبيات الموجودة في ذلك السائد، لتبرير أخطاء الأفراد والمجموعات، كما كان يحدث في الماضي.

وبالجملة.. فإن المعادلة السابقة هي أكثر احترامًا لإنسانية الإنسان وكرامته.. كما أنها أكثر انسجامًا مع أي نظرة للتطوير والتغيير تهدف إلى أن يكون محورها الإنسانُ الحرُّ المسؤول الذي يشعر بتلك الإنسانية وتلك الكرامة.

لكن المشكلة تكمن دائمًا في ضبط معادلة الحرية والمسؤولية، خاصة في الأجواء والمراحل الانتقالية، وهذا هو أحد التحديات التي تواجه المجتمع السعودي في هذه المرحلة وإلى زمن قادم. لهذا، ربما لا يكون ملحًّا الآن الغرق في الحديث عن هذا القرار المحدد بقدر ما هو ضروريٌّ الاستفادة من التجربة ومحاولة صياغة معادلة الحرية والمسؤولية بشكل لا تتضارب فيه مقتضيات الهوية ومقتضيات الانفتاح والتطوير والتغيير.

سنسمع أكثر وأكثر عن خيارات وممارسات في مجتمع المملكة، ليست كلها صائبة وليست كلها خاطئة، ولكنها بمجملها تُعبر عن التحولات المحلية العميقة والشاملة.. والمطلوب اليوم هو الإسهام في صياغة المعادلة المطلوبة بين الحرية والمسؤولية، وتدريب الجيل الجديد عليها على كل مستوى وفي كل مجال.

لكن الحل لا يكمن أبدًا في التراجع عن رحلة التطوير والتغيير أو التباطؤ فيها.. ولا في محاولة تضييق مساحة الخيار والحرية الفردية؛ لأن حيوية وسرعة هذا الجيل من جانب، وطبيعة زماننا من جانب آخر، ألغت هذا الخيار جذريًّا، وإلى أبد الآبدين.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store