Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

ملامح قوية من مسيرة الـ (BBC) خلال (80) عامًا

رؤية فكرية

A A
حاولت بريطانيا بعد انتهاء فترة الاحتلال البغيض أن ترتبط بعلاقات اقتصادية وثقافية مع البلاد العربية والإفريقية، وكأنها بذلك تحاول التكفير عمّا ارتكبته من فظائع في الحقبة الاستعمارية المنقرضة، فهي مثلاً قد أنشأت رابطة الكومنولث، حيث تحتل ملكة بريطانيا منصب الشرف برئاستها لهذه الرابطة، أما في الجانب الثقافي والفكري؛ فقد قامت بإنشاء مؤسسة إعلامية حملت اسم هيئة الإذاعة البريطانية، التي عرفت اختصارًا بالـ(BBC)، ثم أنشأت نسخة عربية من الأصل الإنجليزي، وحاولت من خلاله تحليل المشاكل التي تعوق مسيرة التقدم والتطور الحضاري في مسيرة تلك البلدان. وقبل حلول حقبة التلفزيون كانت الـ(BBC) هي المصدر المعتمد للخبر وبتقنيات عالمية رفيعة ومتقنة، ولا ننسى في هذه المقالة أن نشير إلى أن عددًا كبيرًا من الشخصيات العربية المتخصصة في الأدب والثقافة العربية كانت تشارك هذه المؤسسة من خلال الإذاعة نفسها، أو من خلال المجلة التي تحمل أسماء شخصيات كبيرة في العالمين العربي والإسلامي، مثل الراحلين: الدكتور عبدالله الطيب، والبروفيسور وليد عرفات المتخصص في الأدبين العربي والغربي، وكذلك يبرز لنا اسم الروائي الكبير الطيب صالح، الذي يرى بعض النقاد أن عمله الروائي الرائع «موسم الهجرة إلى الشمال» هو من إيحاء الفترة التي أمضاها في العاصمة البريطانية لندن، وها هي الـ(BBC) اليوم تحتفي بمناسبة مرور (80) عامًا على إنشائها وهي خلال هذه المدة حملت تفاصيل الأحداث الكبيرة التي مرت بها المنطقة، وبقدر كبير من الموضوعية قياسًا بالمحطات الغربية الأخرى.

ولكن لابد لنا بداية أن ننبش في التاريخ حتى نعرف أو نتعرف على المواقف المتسمة بما ذكرناه من الموضوعية فيما يتصل بالـ(BBC)، ومن تلك الأحداث أنه عام 1956م، أثناء الغزو الثلاثي على البلد العربي مصر، أعطت الـ(BBC) الفرصة لزعيم المعارضة المعروف ببلاغته وبيانه الناصع العمالي هيو قيتسكل Gaitskell Hugh لإبداء وجهة النظر الأخرى، سياسيًا واجتماعيًا، حيث قام قيتسكل بالتعبير عن معارضته لتلك الحرب، وبالتالي وقف في وجه حزب المحافظين الذي كان منشقًا على نفسه من حيث قضية العدوان، لأن بريطانيا كانت المستفيد الوحيد من قناة السويس، حيث تصدير البترول في العالم الغربي، والذي تستخدمه مصانع الغرب في الإنشاء العمراني والحضاري عمومًا. مع أن القناة تعتبر شبه رسمية، ويحتل فيها وزير الثقافة والتراث منصبًا رفيعًا في مجلس إدارة الهيئة، الذي يُختار من الشخصيات ذات الخلفيات الفكرية والثقافية المتميزة، ولعل ما حصل قبل أعوام قليلة عند افتتاح دورة البرلمان التي مازالت مستمرة حتى الآن من ديفيد كامرون إلى تيريزا ماي، حيث وقف النائب العمالي واليساري المتشدد والقديم من حيث وجوده في مجلس العموم البريطاني دينس اسكنر، وقف قبل انطلاق مراسم افتتاح الملكة لدورة المجلس رافعًا صوته قائلاً: كفوا أيديكم عن الـ(BBC)، وهذا ما يعطي انطباعًا أن اليمين واليسار في بريطانيا حريصان على استقلالية هذه المؤسسة الإعلامية الرائدة، قال اسكنر عبارته المدوية ثم جلس في الصفوف الخلفية، وكان موقفًا تمتزج فيه الغرابة بالشجاعة.

ولابد لنا أن نعرج على بعض المواقف التي يحسن بنا أن نشيد بها؛ فعند زيارة الإرهابي مناحيم بيغن في نهاية السبعينيات الميلادية قامت الـ(BBC) بإجراء لقاء معه، وكان المذيع صريحًا مع الإرهابي بيغن وهو يحمله وعصابة الأورغن مسؤولية قتل الأطفال والنساء والشيوخ التي جرت في الحوادث الإرهابية المتفرقة التي قامت بها العصابة، مثل مجزرة دير ياسين وكفر قاسم وقبية، فكان كلما تلجلج بيغن في الحديث كان المذيع يمطره بسؤال واحد، هل كنت متورطًا في قتل الأبرياء أم لا؟.

وقبل حوالي عقد من الزمن تسرّب خبر في الصحافة البريطانية مفاده أن الـ (BBC) تعمل على إنتاج فيلم وثائقي عن الإرهابي شارون باسم «المتهم»، وقد حاولت المؤسسات الصهيونية داخل بريطانيا وخارجها أن تقنع القائمين على المؤسسة بإيقاف بث هذا الفيلم عن رئيس وزراء إسرائيل في تلك الحقبة، ولكنها لم تُفلح، وبثت القناة الفيلم، وكان له صدىً واسع داخل المجتمع البريطاني، مذكرًا إياه بأن بيغن وشارون وعصابتهما كانوا ممنوعين من دخول بريطانيا لتلوث أيديهما بدماء الأبرياء البريطانيين وسواهم، خاصة ما جرى في حادثة تفجير فندق الملك داوود في القدس الشريف.

وقبل سنوات قليلة أيضًا كانت المحطة قد أعدت برنامجًا عن حال الفلسطينيين والوضع غير الإنساني تحت الاحتلال الإسرائيلي، فتوقف لمدة يسيرة نشر هذا العمل، ولكن الناشط والوزير الراحل في المؤسسة العمالية توني بين قام بكتابة عريضة وقدمها مع مجموعة ضمن أصوات المنادين بالسلام، ولم يخش من سطوة المؤسسات الصهيونية.

ويبقى لنا أن نسأل: هل المؤسسات العربية في بلد مثل بريطانيا تفكر ولو مرة واحدة في استضافة الأصوات السياسية المناصرة للقضية العربية وفي مقدمتهم النائب العمالي والأب الروحي لمجلس العموم وذو الجذور اليهودية الموسوم جيرارد كوفمان، فذلك يعطي زخمًا وقوة للقضية الفلسطينية ويوضح لنا الفرق بين يهودي يحمل فكرًا صهيونيًا متشددًا، وآخر يريد أن يعيش بسلام مع الآخرين، آخذين في الاعتبار أن الجمعيات الصهيونية في بريطانيا تحاول جذب الأصوات المؤدية لها، فهل نحن واعون لذلك، وهذا للأسف فارق حضاري كبير بيننا وبين أعدائنا!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store