Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

حي باربيس.. هارليم الفرنسي

باربيس- كافي أكثر من عرض موسيقي احترافي مهجري، إعلان عن أن الحياة ما تزال ممكنة وأن الهويات التي تتقاتل اليوم في العالم ليست قدراً، وليست حالات انغلاق وموت لا يمكن التنصل عنها، ولكنها انتفاحات دائمة على عالم أجمل ينشئه الإنسان بثقافاته المتنوعة، داخل معادلات الحب وليس الضغينة

A A
كثيراً ما يذكّر حي باربيس Barbes في الدائرة 18، بحي هارليم Harlem بنيويورك الذي كان في فترة من الفترات مخيفاً بما عرف عنه من عنف واعتداءات. لكن كثيراً ما نكتفي بوجه واحد لما نراه، فنخطىء في المعاينة والتقييم. لا أحد من النخب المثقفة أو حتى الناس العاديين، من الدياسبورا المغاربية والإفريقية، لا يعرف أحد أحياء باريس العتيقة المهمة، الذي شهد قبل أكثر من قرن بناء أولى محطات المترو، وأول المولات (الأسواق) الكبيرة مثل تاتي Tati المعروف لدى كل الناس الذين يزورون باريس ويشترون هداياهم من هناك، بأثمان زهيدة. حي باربيس Barbes الذي يخترقه أحد أكبر الشوارع الباريسية باربيس روشيشوار، تنام على ظهره كنيسة ساكري كور المعروفة، وحي الفنون الملتصق بها الذي شهد عبور الكثير من كبار الكتاب والفنانين والموسيقيين العالميين من أمثال زولا، دالي، بيكاسو، فانغوخ، أيديث بياف، وغيرهم. حي معروف بحركيته الدائبة، وبشعبيته أيضاً إذ نجد فيه كل شيء، من المحبة إلى السرقة، من أقصى الحنان إلى أشد الأحقاد، من بيع الأشياء الجميلة والرخيصة الثمن، إلى السجائر المهربة والمخدرات. طبعاً لازمته الصفة السلبية الظالمة لدرجة أن أصبح في مخيلة الفرنسي المتوسط، مكاناً للقتلة والمجرمين. لكن الحي أجمل من ذلك بكثير. مكان للفن والمسارح والمساحات الثقافية المختلطة حيث تنشأ ثقافة جديدة مليئة بالحب والتسامح. من ذلك باربيس كافي. Barbes café عرض سنوي تكريمي تلتقي فيه موسيقى المهاجر مع جمهورها في أراضي الغربة والمنافي. هو تكريم موسيقى لهجرة مغاربية تمتد طويلاً في عمق التاريخ لدرجة أن خلقت دياسبورا ثقافية مرتبطة بقوة بجذورها التاريخية. على مدار سنوات نظم الكباريه سوفاج le Cabaret sauvage الجميل الكثير من نشاطات الدياسبورا الثقافية التي انتقلت من التشكي من عسر الحياة العمالية المهاجرة، إلى عيشها والارتماء في أعماقها بلحظاتها المرة والحلوة. وسر نجاح باربيس كافي يعود أساساً الى أن العرض يتحدث بلغة المهاجرين المغتربين. ويعيد الى الواجهة المغنين الذين نُسِيوا في الغربة لكنهم عبّروا بقوة عن أحزانهم وشجونهم الكثيرة. ويجسد أيضاً تاريج المهاجر المملوءة بالفرح وأحزان البعد والانفصال عن البيت والأرض وعمن نحب. وقد استحدث في السنوات الأخيرة، ربيتوار الأغاني القديمة، وأعيد لها رونق الماضي وحيوية الحاضر. وفي هذه المساحة الفنية المتاحة نشأت بقوة الكثير من المبادرات الفنية والتجارب الراقية. قد كان العمل الفني الكبير الذي قام به عازف الناي نصر الدين دالي في غاية الأهمية. فرصة لإعطاء دفع جديد لموسيقى المهاجر. الرسالة الواضحة: المَهاجر لا تنجب فقط الإرهاب والضائعين ومتعاطي المخدرات ولكنها، تنجب الإبداع والآمال والموسيقى وكل ما يعمق إنسانية الإنسان. باربيس- كافي أكثر من عرض موسيقي احترافي مهجري، إعلان عن أن الحياة ما تزال ممكنة وأن الهويات التي تتقاتل اليوم في العالم ليست قدراً، وليست حالات انغلاق وموت لا يمكن التنصل عنها، ولكنها انتفاحات دائمة على عالم أجمل ينشئه الإنسان بثقافاته المتنوعة، داخل معادلات الحب وليس الضغينة. فقد استدعى عرض باريس- كافي جهود أكثر من قرن قامت بها الهجرات المتعاقبة من الجزائر والمغرب العربي، ولكن هذه المرة باستعادة الميراث الثقافي العربي الإسلامي اليهودي الذي شكل في حقبة من حقب التاريخ المغاربي مرجعاً ثقافياً مهماً، قبل أن تمزقه الحروب العربية الإسرائيلية المتلاحقة. الكباريه سوفاج استقبل الكثير من هذه التجارب الحية، واحتضنها بأن أعطاها دفعاً كبيراً جعل من ثقافة الدياسبورا التي ترفض تنميط الهويات القلقة ومنتجاتها الثقافية والحياتية، فعلاً مرئياً وليس فقط مجرد أحلام. منح ثقافة المهاجر الجزائرية والمغاربية والعربية مكانتها التي تليق بها، في ظل التطرفات الخطيرة والاختزالات السهلة. الثقافة والفنون والآداب، هي الصاروخ الوحيد العابر للقارات، الذي عندما يسقط في مكان ما، لا يحدث دماراً شاملاً، ولا ينبت رماداً، ولا يسيح دماً، ولكن يمنح حياة ممكنة، وتعددية ثقافية إنسانية، ويعيد صياغة إنسانية الإنسان المسروقة.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store