Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد أحمد مشاط

التجديف في العتمة

الكلمات فواصل

A A
السياسة فن له جانب عملي ملحوظ لا يستطيع أن يجني ثماره إلا الذين صنعوه أو المستفيدون منه أو المشتغلون المباشرون فيه، وهو صناعة لأفكار وآراء وتصورات لا تتسم بالعواطف، بل إن من أهم أسس السياسة وتداولاتها -لدى المنخرطين فيها- الواقعية، فهي التي توصلهم إلى أهدافهم المنشودة بأقصر الطرق، ويتخطون بها في مشوارهم جميع الحواجز والعوائق.. لذا يتهم كثيرون واقعيتها بأنها عمل لا يتصف بالمبادئ والقيم وإنما هي في حقيقتها تطبيق عملي «للميكيافيلية».

وللسياسة من السحر والجاذبية ما يجعل كثيرًا من العرب الذين لا علاقة لهم بها، ولا يعملون فيها، ولا يستفيدون منها؛ يُفتنون بالتنظير فيها، وفي أحداثها ومسبباتها، وفي تأثيرها وانعكاساتها العالمية والمحلية، وهذا -في الواقع- خيال خصب لا حدود له عند كل منظّر فيها وفي تداعياتها عندما يقدم ذلك للآخرين، ولأنه ينطلق من أساس شخصي، وفردي، وفوري في معظم الوقت، وليس له أسس علمية؛ يُحدث تنظير أولئك في الغالب جدلاً كبيرًا، وحماسة عالية، وشقاقًا بين الأصدقاء المختلفين في وجهات النظر.

لكن معظم ذلك هو في حقيقته نشاط ذو صوت مسموع فقط ينبعث بلا تجربة ولا خبرة ولا معطيات يملأون به الوقت في سهرات الأمسيات الطويلة، وفي الصباحات الناعسة المتثائبة، كما أنه عمل عشوائي يفضي إلى محاولة التوصل إلى تفسير مقنع لما يجري حولهم من أحداث ذات تأثير مباشر عليهم أو ربما غير مباشر.

ولأن قوانين اللعبة السياسية لا تعترف بالقيود، بل هي مفتوحة لكل الاحتمالات، وقد تغير اتجاهاتها بوتيرة قد تصل إلى ١٨٠ درجة في زمن قصير نظرًا للمعلومات والمصالح المستجدة؛ لذا كثيرًا ما تسبب تلك التحولات للمنظرين في السياسة كمًّا كبيرًا من الأخطاء في التوقعات المستقبلية، وفي التفسيرات الدقيقة، وفي بواعثها ومسبباتها وأهدافها.

ورغم أن المنظرين والمستمعين لهم يعلمون أن أولئك يعملون بلا قواعد، وأن ما يقولونه يكثر فيه الجهل والخطأ وفقد المعلومات الخلفية، ومعرفة مسببات الاتجاهات والمصالح؛ إلا أنه خيالٌ ممتع للجانبين مشوب بالحكايات، وكثير من العرب يحبون الحكايات والغموض والخيال.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store