Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

إسلام بلا حروب.. ولكن! (٥)

A A
في كتابه بالعنوان أعلاه، يعرض الدكتور محمد حبش نماذج من التاريخ الإسلامي لقادةٍ عَمِلوا في مواقف عديدة على صناعة السلام، والبحث عن أسبابه بكل طريقة.

فبدءاً من الرسول الكريم، ومروراً بعمر بن الخطاب والحسن بن علي وعمر بن عبدالعزيز والحَكَم المُستنصر الأموي في الأندلس، وانتهاءً بالناصر لدين الله العباسي في بغداد، في القرن السابع للهجرة، وعلى مدى أكثر من سبعة قرون، كان لهؤلاء، وغيرهم، مواقفُ لافتة، دينياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً، تحاول التعامل مع الواقع الإنساني الصعب والمعقد، خاصةً فيما يتعلق بحقيقة اختلاط الخير بالشر في طبيعة الإنسان على الأرض، وحتمية أن يوجد فيها على الدوام من (يُفسد فيها ويسفك الدماء)، في مقابل مَن يتحرك عليها ليكون (رحمةً للعالمين).

كان ثمة نقطةٌ رئيسةٌ يُراد التركيز عليها مع بداية هذه السلسلة من المقالات، تتمثل في التساؤل عن (التعتيم) الذي مُورس على مثل تلك المواقف لدى الغالبية العظمى من المؤرخين المسلمين، وغيرهم من علماء السيرة والفقه والتفسير، وفي نقد ذلك التعتيم الذي تحوّلَ معهُ تاريخُ الإسلام والمسلمين، في معظم كتب العلوم المذكورة، إلى سلسلةٍ من الحروب والمعارك. هذا، في حين توارى، إضافةً للمواقف التي تحدثنا عنها والمعروضة بإسهابٍ في كتاب حبش، ما ولّدَهُ الإسلام من حيويةٍ إنسانية في مجالات العلوم والفنون والآداب والفكر والثقافة والفلسفة.

لا نريد فتح معارك بهذا الشأن تنتج عن إساءة الفهم في واقعٍ عربي راهنٍ مثقلٍ بالهموم، ولا تنقصه المعارك الفكرية.. من هنا استخدَمنا أعلاه مصطلحات مثل (الغالبية) و(مُعظم)، خروجاً من تعميمٍ مُطلَق، مرفوض منهجياً، قبل رفضه لأسباب أخرى. فثمة دلائل كثيرة تؤكد حقيقة التركيز على الجانب (العنيف) من التاريخ الإسلامي، بينما توجد في الأدبيات الإسلامية إشاراتٌ، تظهر على استحياء، تتحدث عن نتاج تلك الحيوية في المجالات المذكورة أعلاه، وإنجازات المسلمين فيها.

والحقيقة أن وجود المخطوطات والكتب التي كتبها العاملون في تلك المجالات نفسها، بحيث فرَضت حضورها العملي في صفحات التاريخ، كان عنصراً رئيساً في معرفة أجيال المسلمين بها. ولو أن الأمر تُركَ لكتب التاريخ والسير والمغازي والفتوحات، لربما اختفى ذلك الجانب الإنساني المُضيء من تاريخ المسلمين نهائياً. مع أن الحاصل، في نهاية المطاف، أن هذه الكتب، المذكورة في بداية الفقرة، هي التي صنعت ثقافة المسلمين المعاصرة أكثر من غيرها بكثير..

رغم كل هذا، يعودُ واقعنا الذي نعيشه، كعربٍ ومسلمين وبشر، ليفرض تحديات ضخمة تتعلق بمحاولة تصحيح صورة التاريخ الإسلامي، وتوضيح الأصيل من قيمه ومبادئه الإنسانية. يتمثل أولُها وأكبرُها في الغياب الكامل لثقافة البحث عن السلام وصناعته لدى أصحاب القرار السياسي في النظام الدولي الراهن.

أي تحدٍ ذاك الذي نواجهه، مثلاً، في الحديث عن إسلامٍ بلا حروب، وعن دعوةٍ للسلام وصناعته، ونحن نعيش مجزرةً في قلب العالم، في غوطة دمشق الشرقية، ينظر إليها العالم (المُتحضر) ببلاهةٍ يصعب تصديقُها، ويتعامل معها ببلادةٍ قميئةٍ تثير أقصى درجات الاشمئزاز.

يُعيدنا هذا للمقال الذي كتبه الدكتور حبش نفسه بعنوان «صناعة الإرهاب»، وقال فيه: «إرهابُ داعش والقاعدة والنصرة ليس من صناعة أحمد بن حنبل ولا هو نتاج فتاوى ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب، ولكن علينا أن نتعرف بدقة الى صانعي الإرهاب الذين يتخصصون بمكافحة الارهاب ويقومون بصب الزيت على النار (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). أما نحن البائسون الذين نكتب ليل نهار في إخاء الأديان وكرامة الأديان وتحالف الحضارات فما عسى أن نكتب لهؤلاء الغاضبين الذين وجدوا في هذه التصريحات وقوداً لاهباً لإشعال ريح الكراهية والحرب والبغضاء»..

ثمة استخلاص مؤلم، وواقعي، لهذه الصورة: لا يمكن أن يكون في حاضر ومستقبل المسلمين شيءٌ اسمه (إسلامٌ بلا حروب)، إذا لم يتحرك العقلاء والنشطاء والعلماء والحقوقيون في هذا العالم، وغربه تحديداً، لمواجهة تحدي اختلاط الخير بالشر عند الإنسان. وإذ يبدو الحديث عن صناعة (عالمٍ بلا حروب) مثاليةً مُفرِطة، يظل تحقيق حدٍ أدنى من السلام والأمن والاستقرار على هذه الأرض مستحيلاً دون استمرار المحاولة للوصول إلى ذلك الهدف.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store