Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

تـهميش أصحاب التخصصات الدقيقة

فتضيع بذلك سنواتٌ طويلة من الدراسة والتدريب والعمل، ويصبح الـمُجتمع الـخاسر الأكبـر في قصة حزينة يـمكن تسميتها: مقابر الكفاءات العالية، ومدافن التخصصات الدقيقة.

A A
من ضمن وسائل تنمية القدرة البشرية في الـمجتمعات الـمتقدمة، الاهتمام بآليات التخصصات الدقيقة، وتدريب الكفاءات على إتقان ما يحبونه ويُـبدعون فيه من أعمال مُتخصصة وحِرَف نادرة، وتشجيعهم عليها بـحوافز معنوية ومادية، وتقدير تـميّزهم فيها، وفسح الـمجال لـهم لتطوير مهاراتهم الخاصة وإفادة الـمجتمع منها، وتـحفيزهم على الإبداع بواسطة وسائل شتـّى، عِوضاً عن تركهم عُرضة لتشتيت انتباههم واختلال اهتماماتهم، وضياع أوقاتـهم في تـخصصات عامة تستنزف مجهوداتهم، في حيـن يـمكن لغير الـمتخصصين القيام بـها وإتقانها.

أما في كثيـر من الـمجتمعات المتأخرة حضارياً، وبعد سنوات من الابتعاث الداخلي والخارجي لعدد كبير من كفاءاتها البشرية في مجالات متخصصة علمية وطبية واقتصادية واجتماعية وغيرها، يتم تـهميشهم وظيفياً، وتجريدهم من الإمكانات لتطوير أنفسهم، وسلْب ما يحتاجونه من دعم للتـركيز على وظائفهم وأعمالـهم الـمتخصصة الدقيقة، والزج بـهم في بيـروقراطية عقيمة من الإجراءات الروتينية الـمُحبِطة والتشعّبات النظامية الـمُملة، بواسطة بعض الجهلة والـحمقى الذين تـمّ وضعهم في غفلة عن الأمانة في مناصب قيادية، وقصّ أجنحتهم التي يـمكن لهم التحليق بـها في عالـم العلوم والـمعارف الفكرية والأدبية والاجتماعية والعلمية الـمتخصصة للـحصول على فرصة الاشتهار عالـمياً والاعتـراف دولياً، مـما يُـعطّل هدفاً رئيساً من أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهو توفيـر الجودة العالية في وقت أقصر، وبتكلفة منخفضة نسبياً.

لكن من الـمزعج أيضاً ملاحظة أن تيار الفساد الإداري واضطرابات الـمجتمع الوظيفي في غاية القوة والشدة، حيث يضطر بعض أصحاب الكفاءة والعلوم من الـمتخصصين في مهن دقيقة، إلى مُـجاراة الأوضاع الـمُخجلة، ومُـحاولة النجاة من الـمصائد الـمنصوبة في طريق تقدّمهم ونـجاحهم الـمهْني والعلمي، والبقاء على قيد الـحياة في بيئة مُضادة للإبداع، وذلك بالقبول بأهون الأعمال وأقلِّها شغفاً وتـخصصاً، أو التطلع للخروج من مستنقع الوظيفة وضغوطاتها غيـر الـمهْنية، وتبوّؤ مناصب إدارية طمعاً في مُكتسبات السلطة الوظيفية والوجاهة الاجتماعية والـمزايا الـمادية بعيداً عن صداع الـمهنة، على الرغم من قلّة حيلتهم الفكرية وضعف قدراتهم في عالـم الإدارة، فتضيع بذلك سنواتٌ طويلة من الدراسة والتدريب والعمل، ويصبح الـمُجتمع الـخاسر الأكبـر في قصة حزينة يـمكن تسميتها: مقابر الكفاءات العالية، ومدافن التخصصات الدقيقة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store