Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الميكيافيليون وإسقاط الوعي

لماذا عندما يتعلق الأمر بالذات الإلهية والدِّين والمقدسات والأنبياء والرسل يبرز الوعي بقوة، ويُستمسَك به، ويصبح حَكَمًا عدلاً ومشرِّعًا أمينًا لا يحل لأحد العدول عنه والاحتكام لغيره، وعندما يتعلق الأمر بغير ذلك يُزاح الوعي إلى مكان قصي، ويُقرَّب فعل المصادرة والإقصاء؟

A A
كثيرًا ما نادى المثقفون والكُتاب بحضور (الوعي)، وهو ما يعني أن الشخص الذي يملك قَدْرًا وافيًا منه قد وصل لدرجة متقدمة من الفهم والإدراك تخوله بالحكم على الأشياء التي تَرِد عليه أو تَعرض له. ولقد ظل الوعي أداةً يُحاجَج بها؛ لقدرته على مواجهة الأفكار أيًّا كان منزعها، وقدرته على تجاوز الإشكاليات أيًّا كانت تعقيداتها، وقدرته على تجاوز حالات الاضطراب مهما كان حجمها، ومن ثَم الرسو على جودي الصواب. الأمر الذي لا يمكن استيعابه هو أن بعض هؤلاء المنادِين بالوعي سرعان ما يكفرون بما آمنوا به، وسرعان ما تتبدل مواقفهم تجاه ما كانوا يعدونها مسلَّمات لا تقبل النقض؛ فتراهم يُسقِطون الوعي في بعض المواقف وهُم الذين جعلوا منه الفيصلَ في كل إشكالية وفي كل مواجهة خصوصًا مع الآراء والأفكار. وحينما يأتي الحديث عن الأوعية الإعلامية (الكتب والمؤلفات والبرامج والمواد الإعلامية) التي تحمل محتوى يسيء للذات الإلهية أو الدِّين أو المقدسات أو الأنبياء والرسل، تبرز بشدة ووضوح مفردة (الوعي) وتأتي في سياق اللوم والإنكار على المعترضِين على محتوى تلك الأوعية، وحجة اللائمِين أن مصادرة المعترضِين لمحتوى تلك الأوعية لن تحل القضية ولن تأتي عليها من أساسها، ثم يأتي الرأي بترك الوعي ليأخذ مساره ويُعمِل أدواته، وعن طريقه سيُدرِك المعترِض وضاعة المحتوى وعدم صوابية تلك الأفكار المضمَّنة في تلك الأوعية، فالوعي -بحسب بعض اللائمين- كفيل بتمحيص المحتوى وأخذ جيده وطرح رديئه، بالتالي لا حاجة لفعل المصادرة والإقصاء خصوصًا ونحن في زمن أصبح الحصول على الأفكار والمعلومات أمرًا ميسورًا، وما قيام المعترضِين بفعل المصادرة إلا كمن يغلق نافذة وتبقى نوافذ عديدة لا حيلة له بها. في المقابل حين يأتي محتوى تلك الأوعية الإعلامية تضادِّيًّا أو غير مرضيٍّ عنه من قِبل اللائمِين هنا يُسقِط أولئك اللائمون الوعيَ، وتُنزَع عنه عبارات التبجيل التي طالما أُلبِسَها، ويصبح حضوره بمنزلة الخيانة، ويصبح الحديث عن تواجده في هذه الحال بمنزلة التطرف والتآمر. يا تُرى، ما الذي أحدث كل هذا التحول في مفهوم هؤلاء تجاه الوعي؟ وما الذي جعل الوعي يتزحزح عن مكانته ويفقد كل أدواته؟ لماذا عندما يتعلق الأمر بالذات الإلهية والدِّين والمقدسات والأنبياء والرسل يبرز الوعي بقوة، ويُستمسَك به، ويصبح حَكَمًا عدلاً ومشرِّعًا أمينًا لا يحل لأحد العدول عنه والاحتكام لغيره، وعندما يتعلق الأمر بغير ذلك يُزاح الوعي إلى مكان قصي، ويُقرَّب فعل المصادرة والإقصاء؟

الأمر الذي يؤكده ويشدد عليه المسؤول الأول هو أن (الدِّين والوطن) خطَّان أحمران لا يمكن المساومة عليهما والتهاون مع المسيء إليهما. على هذا نحن أمام حدَّي معادلة يُعد الإخلال بأحدهما خيانة تستوجب المساءلة والعقاب، فكيف يسُوغ للبعض ممارسة الازدواجية مع هذين الحدين؟.

والخلاصة أن الموقف من الوعي يأتي على ثلاثة مسارات: الأول- مسار من يرى عدم المنع والمصادرة بوصفهما غير مجديين في هذا الوقت، ويرى أن الوعي كفيل بتخطي أي إشكالية يتضمنها محتوى تلك الأوعية الإعلامية، وهؤلاء موقفهم واضح. الثاني- مسار من يرى أن الوعي لا يوثق به، ويرى وجوب حضور فعل المصادرة في كل حال، وهؤلاء أيضًا موقفهم واضح. الثالث- مسار الفئة (الحربائية) التي تقتات على الوعي وتكيفه وفق أهوائها ومصالحها؛ فمرة تطالب بحضوره ومرة تُسقطه، وهؤلاء ميكيافيليون (مصلحيُّون).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store