Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التراويريون

التراويريون لو خُيِّروا بين الانتقال لحياة الماضي والعيش فيها بكل ظروفها أو البقاء في الحاضر بكل معطياته لما ترددوا في اختيار البقاء في الحاضر وطلب الكثير من عطاياه مع استشرافٍ تامٍّ للمستقبل وما يدفع به إلينا من منجزاته ومكتشفاته

A A
يعيش (التراويريون) عصرهم الحاضر بكل تفاصيله، ويتنعمون بكل وسائله وتقنياته، ويستمتعون بكل منتجاته وأدواته، لكنَّ قلوبهم لا تنفك عن أن تكون معلَّقةً بالماضي (القريب والسحيق) بحسب ما تقتضيه المصلحة أو يتطلبه الموقف. مصطلح (تراويري) مصطلح منحوت من مفردتَي (تراثي-تنويري)، بمعنى أن التراويري حداثيُّ الملامح تراثيُّ الهوى، جسدُهُ في الحاضر وروحه في الماضي، وليس الماضي كله وليس في كل الظروف والأحوال كما سنرى. التراويريون تراهم -في شقهم التنويري- مستمسكِين -جزئيًا- بقيم التنوير ومشددِين عليها، ضاربِين عرض الحائط بالقيم الأخرى التي قد تشكل خطرًا عليهم فتُفقدهم مكانهم ومكانتهم، وفي شقهم التراثي تراهم يعشقون التراث ويتماهون معه إذا تعلق بالجانب المادي وبعض العادات وطقوس الفرح والرقص وأشكال الملبس، وإذا تعلق التراث بأحكام الدِّين تراهم يأنفون منه (الماضي) فينحازون للحاضر في ازدواجية مضحكة. ومع أن التراويريين شديدو التعلق بالتراث في شقه المادي إلا أنهم -كما ذكرتُ آنفًا- لا يتمثلونه بحذافيره في كل الأحوال؛ ففي الملبس يأخذون منه ما يتناسب والعصر ولا يجلب عليهم السخرية أو الوصم بالماضوية والرجعية وإلا فهم يعلمون جيدًا تفاصيل ملبوس الأجداد لكنهم يأنفون من أخذه بكامل هيئته، وفي المأكل تراهم يتناولون (بأطراف أصابعهم) شيئًا يسيرًا من محتويات القِصَاع تحت وقع المجاملة ولتسجيل موقف أمام فلاشات الكاميرا في حين قلوبهم معلقة بالمأكولات الحديثة والعصرية، وفي منطوقهم تتبدل مخارج حروفهم ونبرات أصواتهم بحسب المكان والموقف، وفي المسكن تراهم يخصصون زاوية ضيقة من أسوار منازلهم لتكون ملهمةً لهم من خلال بيت شَعَر أو وَبَر مع أنهم لا يرضون المنام والراحة إلا في فيللهم الراقية أو شققهم الفاخرة، ولابأس أن يتمموا ذلك بقطيع من الإبل داخل سياج حديدي تبقى طوال دهرها في حر الهاجرة وبرد الليالي الشاتية لتكون سلوةً لهم حال حنينهم لها، مع أن أحدهم يأنف من القيام على خدمتها ساعة من الزمن. لا يجد التراويريون حرجًا في العودة آلاف السنين ليستلهموا مبادئ الفلسفة الإغريقية وآراء الفلاسفة، فهم يرون تلك المبادئ والآراء صالحة لكل زمان ومكان، فهي وإن ظهرت قبل الميلاد إلا أنها -في نظرهم-لا ترتهن لحدود زمانية أو مكانية، ولا تعترف بسياق تاريخي يؤطرها فلا تصلح إلا له، بل لا يتبادر الشك إلى أذهانهم في صحة هذه المبادئ وعدالة الناقلِين لها، لكن النظرة تتبدل مع تعاليم القرآن والأحاديث الصحيحة -التي يفصلنا عنها زمن يسير مقارنة بما يفصلنا عن الفلسفة الإغريقية- فترى الأصوات تتعالى بوجوب النظر للآية والحديث في سياقهما التاريخي على ألا نسقطهما على زماننا -هذا إذا حظيت لديهم بالقبول- بعد اطمئنانهم لصحتها وعدالة الرواة. التراويريون لو خُيِّروا بين الانتقال لحياة الماضي والعيش فيها بكل ظروفها أو البقاء في الحاضر بكل معطياته لما ترددوا في اختيار البقاء في الحاضر وطلب الكثير من عطاياه مع استشرافٍ تامٍّ للمستقبل وما يدفع به إلينا من منجزاته ومكتشفاته. لستُ هنا أُصادر الماضي أو أقف في موقف القطيعة معه أو مع استلهام العبر منه والحفاظ على بعض آثاره ومقتنياته، وإنما في موقف الداعي إلى الوضوح في التعاطي معه، وفي موقف بيان الازدواجية التي يتعامل بها البعض معه، وإلا فكيف نطلب التراث في شقه المادي مهما كان غائرًا في الزمن بحجة ضرورته ونتجاهله في شقه الديني والفكري القريب بحجة ماضويته، في الوقت نفسه نقفز آلاف السنين لنستلهم التراث الفلسفي الإغريقي بحجة صلاحيته؟!
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store