Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

ذكريات شعبانيَّة

A A
من عادات أهالي المدينتين المقدَّستين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وسواهما من مدن المنطقة الغربيَّة وقراها؛ اغتنام الفرص على تعدُّد أشكالها ومناسباتها لتبادل زيارات التهنئة مقرونة بتمنيَّات العودة لأمثالها بالمسرَّة والهناء. من هذه المناسبات ما نعيشه من أيَّام شهر شعبان التي تتقدَّم شهر رمضان المبارك، ونطلق عليها تسمية «الشعبنة». فلكلور شعبي حجازي يساهم في تكاليف إقامته مجموعة من ميسوري الحال في واحدة من الاستراحات أو في خيمة في البرِّ، يدعون إليه الأهل والجيران والأصدقاء ونخبة من رجال العلم والأدب والفكاهة والطرب حبًّا في إحياء تراثنا الشعبيِّ، لما فيه من تمتين أواصر الودِّ والمحبَّة بين المشاركين وضيوفهم.

هذه الأيَّام بسبب الظروف الاقتصادية، لا يقيمها إلَّا من وسَّع الله عليهم في الرزق. في السابق قبل الانفجار السكَّاني في السبعين سنة الأخيرة، كانت المساكن متجاورة والبيت الواحد يضمُّ الجدَّ والجدَّة والأعمام والإخوة والأخوات والزوجات والأبناء والبنات... يجتمعون في مجلسٍ واحد، ويتناولون وجبات طعامهم على مائدةٍ واحدة، ويمضون سهراتهم مُتحلِّقين حول جهاز الراديو، وما يقدِّمه من برامج ترفيهيَّة تفوَّقت فيها إذاعة القاهرة في برنامج «ساعة لقلبك». وفي مناسبات، يجتمعون مع جيرانهم في ساحة الحيِّ يشتركون معًا في الطعام والشراب، كلٌّ حسب مقدرته، وفي ترتيب البرامج الترفيهيَّة والثقافيَّة.

تترحَّم الجدَّات على أيَّام زمان، وتؤكِّد أنَّ البرامج التلفزيونيَّة المتعدِّدة وانتشار الفضائيَّات وثورة تقنية المعلومات وما استجدَّ من قنوات التواصل الاجتماعي ساهمت جميعها في فك روابط الأسرة الواحدة وتشتُّت أفرادها. أمَّا رسائل الإنترنت عبر الهواتف الذكيَّة، فهي قطعًا لا يمكن للجدَّات وربَّما الآباء من أبناء جيلنا استيعابها.

تترحم على أيَّام زمان؛ وترانا نَحنُّ إلى أيَّام «الشعبنة» خارج سور المدينة، وإلى العيدين حيث المزارع وما فيها من ماء وخضرة وأريج ورود وزهور.. وأمسيات السمر على إضاءة لمبات الأتاريك، وإيقاعات موتور مضخَّة الماء ونقيق الضفادع ليلًا، وصياح الديكة مع الصباح الباكر.

ومع ذكريات الأمس الجميل، لا يغرب عن البال: «دوام الحال من المحال». وأن التغيير سُنَّة الحياة. والحمد لله الذي أمدّ في أعمار جدّاتنا لنتمتَّع معهن بحاضرنا، وذكريات أيَّام زمان، وما كان فيها من بساطةٍ وفرح وسرور ورضا بالمقسوم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store